دعم الموسوعة:
Menu

 

مجتمعات هویتها فی تقالیدها وأعرافها

 

ما من أحد فی هذه المعمورة إلا ویحب أن یعیش حراً طلیقاً یتصرف کیفما یشاء وأنى یشاء، لا تصده القیود ولا تمنعه الحدود معمور الجیب بالنقود مفتول الزنود، یجتاز السدود ولا یخشى الرعود، یفتخر بالأولاد والأحفاد ویعظم الجدود، یمنى النفس بخلود سرمدی ما دامت السماوات فی أفلاکها تسبح، والأرض فی درب تبّانتها تسرح.

أحلام وردیة لنا أن نحقق بعضها والکثیر منها تتکسر أمواجها على ساحل الحقیقة وتنتهی مدیّاتها عند مرافئ الواقع، فلا الحربة مطلقة، ولا الدنیا دائمة، فالقوة إلى هزال والمال إلى زوال، وبقاء الحال من المحال إن حط الرحال أو جال، إن أغمد السیف أو صال، وکل أجل آت ما عمّر الإنسان أو فات.legislation society frontcover

هذه هی حال الحیاة الدنیا لا تستقیم على أمر ولیس لمتقلباتها من مفر ولا هی بالمقر، بید أن الثابت منها أمران:

أولا:

إنَّ الإنسان هو محورها وفی یده بناؤها أو خرابها، وحیث یجهل مقامه فیها یذکره خالقه: (وَلَقَدْ کَرَّمْنَا بَنِی آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّیِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِیلاً) سورة الإسراء: 70، وحیث ینسى دوره فی خضَّم تغرُّبها وتشرُّقها ذات الیمین وذات الشمال یأتیه النص العلوی المنظوم من بحر المتقارب: (وتحسب أنک جرم صغیر ... وفیک انطوى العالم الأکبر) دیوان الإمام علی: 45.

ثانیا:

إنَّ الإجتماع أساس الحیاة السلیمة، فالمجتمع هو مجموع أفراد البشر فی البقعة الواحدة یشترکون فی کل شیء، یفرحون ویحزنون معاً، ولا قیمة للإنسان من دون الإجتماع إلا أن یختار بقعة نائیة فی شرق الأرض وغربها، أو یعرج إلى جرم یصفر بأهله.

وللمجتمع موازینه وحدوده وتقالیده وعاداته وأعرافه، فلیس من السهل تجاوزها ومن الصعب تغییرها، ولکن لیس من المستحیل تثقیف أفراد المجتمع على التمسک بالصالح منها ولفظ الطالح، فهی تراکم عادات على مر الزمان، تضبط إیقاعها فی المجتمع مجموعة أحکام عرفیة أو تشریعات دینیة أو مدنیة.

وللوقوف على مجمل أحکام الإجتماع وعلاقة الفرد بالمجتمع وتعاطیه مع العادات والتقالید والأعراف، صدر فی بیروت عن بیت العلم للنابهین حدیثا (1433هـ - 2012م) کتیب "شریعة الإجتماع" أبان فیها الفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق الکرباسی مجموعة من الأحکام فی 84 مسألة تنظم مسیرة المجتمع بما فیه صلاحه وخیر الأجیال، قدّم وعلّق علیه القاضی آیة الله الشیخ حسن رضا الغدیری.

موروثات فاعلة

لکل مجتمع عاداته وتقالیده وهی نتاج سلسلة من التفاعلات الإجتماعیة لأعوام متمادیة أو دهور طویلة تدخل البیئة والجغرافیة والحوادث الواقعة والمعتقد والمجتمعات المجاورة فی تولیف عادات المجتمع وتقالیده، فبعضها تتأصل جذورها بما یصعب قلعها إذا ما خالفت مسلمة من مسلمات الدین، وبعضها الآخر قابل للزوال وبعضها الآخر قابل للتحویر بما یتواءم والدین، قد لا یتفقان ولکن لا یتعارضان، فالتقالید لیست حلقة منفصلة عن مناحی الحیاة الأخرى وإنما لها مماسّات مع کل حلقات المجتمع من قبیل نظام الأسرة والزواج والولادة ومواسم الأفراح والأتراح، بل فی کل صغیرة وکبیرة، کل هذه الأمور مصادیق لعلم الإجتماع بوصفه کما یؤکد الفقیه الکرباسی: (هو دراسة وضع المجتمعات وأعرافهم وما ینتهجونه، ودراسة تاریخهم ومعتقداتهم الإجتماعیة ونسیجهم الذی کوَّن هذه الکتل البشریة فی شرائح تتفاوت إحداها عن الأخرى).

وتدخل العادات والتقالید ضمن المواریث الشعبیة أو التراث الشعبی، فیُشار للمجتمع بها وبها یُشار للمجتمع، فأحدهما دال على الآخر، فلکل مجتمع تقالیده وقد یشترک مع مجتمع آخر ببعضها، وقد تصبح التقالید مع مرور الزمن والإنقطاع عن المنبع دیناً، وخیر التقالید والعادات ما کانت مدعاة للخیر وبث مفاهیم الخیر والفضیلة وتوثیق عرى المجتمع وشد لحمته، وبهذا تکون أقرب للواقع والعقلانیة وأصدق إلى رسالة السماء التی تحارب الفساد ونبذه وتعمل على إشاعة السلام والسلم المجتمعی، من هنا یرى الفقیه الکرباسی أن: (کل العادات والتقالید التی لا تخالف الشریعة المحمدیة لا حرمة فی اتباعها بل والتعامل بها).

ولا إشکال فی أهمیة معرفة المرء لعادات وتقالید المجتمعات الأخرى، ولاسیما التی یکون على احتکاک معها من خلال السفر أو التعامل التجاری أو الهجرة، فما یصدق فی مجتمعه قد لا یصدق فی مجتمعات أخرى، وما یکون مقبولا عند الآخرین قد لا یکون مقبولا عنده وبالعکس، ولذلک علیه الوقوف على عادات وتقالید الآخر حتى لا یقع فی المحظور ویرتکب ما لا تحمد عقباه، وهذا جزء من علم الإجتماع، وفی هذا السیاق یرى الکرباسی أن: (محاربة مجتمع مع مجتمع آخر على رفض أو فرض العادات والتقالید لا یجوز شرعاً ولکلٍّ حرمته، فلا یجوز استخدام القوة فی ذلک حتى وإن حدث فیما بینهم خلاف على بعض المسائل) ولهذا: (یجوز للحاکم أن یأخذ بعین الإعتبار فی سنِّ القوانین بعض الإعتبارات العشائریة والقومیة ومراعاة بعض العادات والتقالید السائدة فی المجتمع الذی یحکمه من دون مخالفة الشرع)، کما: (یجوز للحاکم الإسلامی أن یمیز منطقة إجتماعیة ببعض القوانین التی تراعی فیها عاداتهم وتقالیدهم بما لا ینافی التمییز بین فئات الشعب وسحق الحقوق)، ولکن لا ینبغی التمادی کثیراً مع التقالید غیر المنسجمة مع العقل والفطرة التی أصبحت لدى الآخر دیناً، ولکن إذا انسلخت العادة عن العقیدة فلا حرمة فی ذلک ویمثل الکرباسی بذلک العبور على النار فی عید نوروز لدى بعض المجتمعات المسلمة، إذ أن: (العادات والتقالید غیر الإسلامیة کمسألة العبور على النار فی عید نوروز إذا انسلخت من مقاصدها العقائدیة جاز ذلک، وإلا حرُمت)، وفی الوقت نفسه: (یجب العمل على إبعاد المجتمعات من الخرافات ومن الأمور اللاأخلاقیة ومما لا یرتضیه الشرع والعقل والفطرة السلیمة)، ویؤکد الفقیه الغدیری فی تعلیقه أنه: (لا یجوز الإهمال فیه بالحِیل الواهیة التی یتوسل بها بعض من له المجال للقیام بذلک من قبیل المصالح السیاسیة وغیرها).

أعراف محمودة

وإذا ما ذکرت التقالید والعادات اصطفت إلى جانبهما مصطلح الأعراف، صحیح أن البعض لا یرى فرقا بین العادة والعرف، ولکن الثانی هو حصیلة تقلید أو عادة تسالم علیه المجتمع حتى أصبح مقبولا لدى أکثرهم أو جمیعهم، وبتعبیر الفقیه الکرباسی: (العرف: هو العادات والتقالید التی تعارف علیها المجتمع المدنی وساد بینهم وتعاملوا معه)، فیأتی الشرع السماوی لیقبله أو یشذِّبه أو یرفضه، وتطبیقه من عدمه عائد للمجتمع نفسه، فعلى سبیل المثال کانت بعض الدیات قائمة فی عهد ما بعد الإسلام وکانت من الأعراف التی تسالم علیها عرب مکة بخاصة وعرب الجزیرة بعامة، فاستحسنها الإسلام وأقرها، من قبیل دیة القتل فقد کانت عشر من الإبل حتى جعلها شیبة الحمد عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشی جد النبی محمد(ص) مائة من الإبل، فجرت فی قریش والعرب مائة من الإبل وأقرها الإسلام على ما کانت علیه، وهنا یذهب الفقیه الکرباسی إلى إنتقاد من یعمل على ضرب العرف والتقالید الداعیة إلى نشر الخیر بحجة أنها من عندیّات المجتمع لا من الدین، إذ: (لا یجوز العمل على إفشال التجربة الإجتماعیة الناجحة القائمة على المحبة والإخاء والأخلاق والقیم، ومَن سعى إلى تخریب ذلک فقد أثِمَ، بل هو من الفساد فی الأرض)، فالدین لا یرفض العرف الحسن.

وتأسیسا على المسألة السابقة فإن الفقیه الکرباسی یرى أنه: (یجوز صرف المال من الحقوق الشرعیة فی إصلاح المجتمعات نحو الأفضل)، ویعلق الفقیه الغدیری على هذه المسألة منتقداً أولئک الذی یشترطون صرف الأموال الشرعیة بإجازة مرجع التقلید، فیرى أن صرف الحقوق الشرعیة: (لا یحتاج إلى إذن من المرجع وإجازته کما هو المتعارف فی مجتمعنا الدینی، إن القول باشتراط صرف الأموال الشرعیة بإجازة المرجع لا دلیل علیه، والتمسک بدلیل حفظ النظام ودفع الإختلال فی المجتمع فی غیر محلِّه)، ویبدی الغدیری علامة استفهام کبیرة تعقبها علامة تعجب أکبر فیؤکد: (والعجب کل العجب من بعض وکلاء المراجع حفظهم الله تعالى جلّ شأنه یروجون أمثال هذه الآراء، وإنَّ موارد صرف الأموال الشرعیة مذکورة ومبینة فی رسائلهم العملیة، ولا حاجة إلى إجازاتهم- على حدِّ تعبیر بعض الوکلاء- مرة أخرى..).

ولکن المجتمع العربی أصابه ما أصاب المجتمعات الأخرى من أعراف لا تنسجم مع العقل وبالتالی فهی تتعارض مع الشرع، فعلى سبیل: (جرى فی بعض المجتمعات أن من العیب على المرأة إذا طلقت أن تتزوج بعده، وبما أنه مخالف للشریعة، فإن مخالفة هذا العرف والعادة جائز بل فی بعض الحالات أو المجتمعات یجب القضاء علیه، وبالأخص إذا أدى إلى فساد إجتماعی وأخلاقی)، کما (جرى فی بعض الأعراف أن المرأة لا تتزوج بعد وفاة زوجها، ویعد من العیب القیام بذلک، بل هناک من یقوم من الأهل مقاطعتها أو القضاء علیها إذا تزوجت، فإن ذلک مما یجب محاربته)، ولهذا یرى الفقیه الکرباسی الحرمة فی: (مقاطعة البعض أو تعییر النساء لمن تزوجت بعد وفاة زوجها أو بعد طلاقها منه .. ویجب على تلک النساء الکف عن ذلک، وعملهم یعد معصیة) وکذلک: (مما جرى فی کثیر من الأعراف والمجتمعات أن المرأة لا تتزوج بعد موت زوجها بل تبقى فی حالة حِداد لمدة سنة على أقل التقادیر وهذا هو الآخر باطل، ولکن إذا أرادت المرأة برضاها الإنتطار لمدة سنة فلا مانع من ذلک)، وینتقد بعض الأعراف الإجتماعیة التی تنحو إلى: (عدم تزویج البنت الثانیة إلا بعد تزویج الأولى لیست له شرعیة).

وإذا کان من العرف الإجتماعی العودة إلى زعیم القبیلة لإصلاح ذات البین وهو أمر حسن وجمیل لفض النزاعات دون اللجوء إلى المحاکم، ولکن: (لا یحق لزعیم القبیلة أن یجری القصاص أو الحد دون إذن حاکم الشرع، ولا أن یحکم بما لم ینزله الله جلّ وعلا)، فـ: (التحاکم عند زعیم القبیلة فهذا لا بأس به إن تمّ طبق الشریعة وإلاّ کان باطلاً).

ولا یختلف عقلاء البشریة أن الله خلق الإنسان من أجل إعمار الأرض والعیش فیها بسلام ووئام، وما نراه من ظلم یقع على المجتمع کفرد ومجموع هو من عمل الإنسان نفسه الذی تتنازعه قوى الخیر والشر، ولا یختلف هؤلاء العقلاء أیضا أن الإصلاح لیس من مسؤولیة الأنبیاء والأوصیاء والأئمة فحسب، فهی مسؤولیة کل فرد من آحاد المجتمع من ذکر أو أنثى، ألا: (کلکم راع، وکلکم مسؤول عن رعیته) صحیح مسلم: 12/312، کما یقرر رسول الله الإنسانیة محمد(ص)، وبه یصلح الفرد والمجتمع وتتحقق الحیاة الطیبة کما یقول خالق الإنسان: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیَاةً طَیِّبَةً وَلَنَجْزِیَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ) النحل: 97، وعندئذ یتحقق قوله تعالى: (لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَکَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) الأعراف: 96، وحتى یتوفر الإنسان على الحیاة الطیبة فلابد من بناء المجتمع الصالح الذی لا تتعارض تقالیده وعاداته وأعرافه مع مقتضى الشریعة والعقل.