دعم الموسوعة:
Menu

 

وهل یتلو الشیطان قرآناً؟

 

یحفل سجل التاریخ القدیم بنصوص لا یشک المرء من الوهلة الأولى أنها من بنات خیال الإنسان، بخاصة تلک التی تتحدث عن عالم یرى فیه الإنسان أخاه الإنسان عن بعد أو یتحدث إلیه عبر القارات، أو یتصل به عبر فضاءات غیر مرئیة، فلم یکن الواقع الإنسانی یتصور إمکان التخاطب عن بعد، ولذلک عمد أکثر الناس إلى تجاهل مثل هذه النصوص ورمیها فی سلة الخیال الخصب، وبعض وعلى أسس عقیدیة رفضها جملة وتفصیلا، والبعض الآخر على الأسس نفسها تقبلها بقبول حسن واضعا إیاها فی خانة الإخبار الغیبی القابل للتطبیق فی قابل الزمان.
legislation telecom frontcover

والکثیر مما کان فی عالم الإستحالة انتقل فی عصر المعلومات إلى عالم الإمکان، فرفع ذلک من وتیرة فضول بعض المهتمین فی نصوص التاریخ إلى محاولة اکتشاف الغامض من النصوص، لکن هذا البعض قاصرٌ عن التحقق من النصوص بوسائل علمیة حدیثة، لأنها فی معظمها حکر على حکومات ومؤسسات غربیة لا تدع للآخر معرفة أسرارها، کما أن دول الشرق بشکل عام لا تمتلک مثل هذه المؤسسات البحثیة والدراساتیة، أو لا یراد لها أن تمتلک ناصیة العلم وأن تدخل مضمار العلوم الحدیثة، على أن البعض مع اکتناز خزینة النصوص الإسلامیة للکثیر من الدرر العلمیة غیر واعین لأهمیة هذا الکنز النفیس، ولهذا کلما استجد على ساحة العلم جدید تباروا لبیان أفضیلة الإسلام وعدم تقاطعه مع العلم إلى التأکید بأن هذا المکتشف العلمی أو ذاک من صمیم الإسلام، وأن الإسلام سبق الآخرین فی البت فیه، وما إلى ذلک من أقوال تعبر عن حسرة وغصة، لکننا نعدم الوسائل التی تترجم هذه النصوص إلى حقائق علمیة تجریبیة وحسیة، فانشغلنا بلعبة التفاخر والإعجاز وتفرّغ الآخر لآلة التطور والإنجاز.

أما الأسوأ من هذا أن البعض لا یکتفون برفض النصوص الحدیثیة أو القرآنیة التی تستبطن مظاهر المدنیة العلمیة أو تستظهرها وتحث المسلمین على الوغول فی تلافیفها، فإنهم یرفضونها بدعاوى کثیرة جاعلین الشیطان هو المدخل إلى رفض الجدید حتى وإن کان فی خدمة الإنسان، فکل جدید نسب إلى الشیطان، فی محاولة للحجر على عقل الإنسان، وإن کان یخبر هذا التصرف غیر العقلائی عن کینونة هؤلاء البعض القائمین أصلا على التحجّر، فهم یظللون الناس عن مستنقع جمودهم بوصم الجدید بالشیطنة، فمثل هؤلاء کما یؤکد الفقیه الشیخ الدکتور محمد صادق الکرباسی عند تناوله لوسائل الاتصال الحدیثة فی کتاب "شریعة الإتصالات" الصادر حدیثا عن بیت العلم للنابهین فی بیروت فی 48 صفحة من القطع الصغیر مع تقدیم وتعلیق الفقیه الشیخ حسن رضا الغدیری: "لم یمیزوا بین الإبتداع فی الدین أو فی غیره، بل ولم یمیزوا ما یُنسب إلى الدین أو إلى غیره، ومن هنا نشأت فکرة التکفیر بمجرد مخالفة الرأی الآخر لاجتهادهم البلید الناشئ عبر عقول متحجرة وأفکار نامیة فی قرى التخلف".

الآلة الصماء

لقد جرت قاعدة الإباحة مجرى المسلمات، فکل شیء مباح للإنسان تصنیعا واستعمالا إلا ما قیده نص وأخرجه من الإباحة والحلیة، وهذه القاعدة هی المبتنى فی کل جزئیة من جزئیات الحیاة الدنیا، فلا یمکن وصم الجدید بالبدعة بحجة أن الأجداد لم یعهدوه وجوداً واستخداماً، أو أن البعض استعمل الشیء الجدید فی موارد غیر صحیحة معارضة للشرع والعرف، فالآلة تبقى هی آلة صماء یستنطقها لسان الإستعمال، فإن استعملت فی الخیر کانت لسان حق وإن استعملت فی الشر کانت لسان باطل، وحسب تعبیر آیة الله الکرباسی: "فإن الآلات الحدیثة والتألیت الحادث عبر التطور المستمر یخضع للنظام الإسلامی العام، فما استخدم فی وجوه الصلاح والإصلاح فجائز، وما استخدم فی وجوه الفساد والإفساد فهو محرّم، فالاستخدام هو المهم، أما الآلة فهی جامدة کالسکینة إن استخدمتها لأغراض مباحة وإنسانیة فهی محللة، وان استخدمتها للقتل والطعن فهی محرمة، فهی ذات وجهین تتحدد بنوعیة الاستخدام، إلا إذا خصصت لأجل ما هو محرّم دون شک ولا ریب".

ومن طریف ما یذکر فی مجال التطور العلمی على صعید الاتصالات، أن الهاتف دخل دولة عربیة للتو وعندما حضر احد کبار رجال الدین مجلس الحاکم، وجد إلى جانبه جهاز الهاتف وعندما حاول الحاکم استخدامه نهره العالم ناعتا الهاتف بالشیطان، فاحتال الحاکم على رجل الدین بأن أوعز لأحد موظفی القصر أن یتلو عبر الهاتف آیات من الذکر الحکیم، ولما استمع العالم إلى القرآن یصدر من الهاتف، عاجله الحاکم بالسؤال: وهل یمکن للشیطان أن یتلو القرآن یا مولانا؟ فأُسقط فی أیدی العالم وتقبل الأمر على مضض کون الهاتف لیس بشیطان رجیم!

فالعبرة فی نوعیة الاستخدام لا فی أصل الجهاز، فوسائل الاتصال، ومنها القنوات الفضائیة، واحدة مما أشارت إلیها النصوص، فقد ذکر الإمام جعفر الصادق (ع) فی بیان علامات آخر الزمان عند الحدیث عن المهدی الموعود (عج): "إن المؤمن فی زمان القائم وهو بالمشرق لیرى أخاه الذی الذی فی المغرب، وکذا الذی فی المغرب یرى أخاه الذی فی المشرق"(منتخب الأثر: 483)، فهناک قنوات تنشر الفضیلة وآخرى تنفث الرذیلة، والأمر نفسه مع آلة الهاتف، ولذا یؤکد الفقیه الکرباسی أن: "الاستخدامات المحرّمة لا توجب حرمة الأدوات، فلو أن الهاتف أصبح وسیلة للدعارة فإن الهاتف لا یصبح محرماً بل استخدامه فی هذا الغرض محرّم" وذلک کما یعقب الفقیه الغدیری: "لتبعیة الأحکام لأغراض الأعمال ولا علاقة لها بالأدوات بما هی، إلا إذا وضعت للأعمال المحرّمة، ولا یمکن الاستفادة منها فی غیر المحرّم".

اتصالات وحضارات

کل ما فی الوجود مسخر لخدمة الإنسان، فحریته وکرامته مقدمة على کل شیء، والتنوع فی الملل والنحل، والأبدان والأدیان، واللغات والصفات، مدعاة للتقارب البشری والتعاون على البر والتقوى لإعمار الأرض وإحیائها، ولا وسائل علمیة کوسائل الاتصال أدل على مرکزیة التقارب البشری الذی یقرب البعید ویعزز القریب، مما یجعل البشریة بقاراتها السبع أسرة واحدة إذا جمعتها السیاسة فی منظمة الأمم المتحدة جمعها العلم عبر وسائل الاتصالات والإرسال، من هاتف بکل تفریعاته من مسموع ومقروء ومرئی ومصوّر أو مذیاع أو عدسة فضیة (تلفزة) أو برید کهربی (إلکترونی) أو شبکة بینیة (الإنترنیت)، لأن من مفاهیم الاتصالات کما یشیر المعد، أن: "الإتصال هو تقارب الشیئین واقترانهما، ومنه اتصال النیّرین الشمس والقمر أی اقترانهما واستقبال أحدهما بوجه الآخر".

ومن الاتصال یحصل التقارب ومن التقارب یتحقق التفاهم على تذلیل الصعوبات والتوافق على تحیید الاختلافات، ولهذا أی تطور باتجاه تقریب النفوس یعد خطوة مبارکة، من حیث أن التطور المعرفی الخاص بالاتصالات کما یعتقد الدکتور الکرباسی له مدخلیة کبیرة فی تقلیص الخلافات بین الأقوام وهو: "الطریق الأنجع إلى تلاقی الحضارات وفهم الشعوب والأمم بعضها للآخر".

ولا شک أن استخدام وسائل الاتصال الحدیثة یدخل فی نطاق حریة الإنسان، بید أن الحریة لیست مفتوحة النهایات والمدیات، ولیست هی حریة مقیدة قصیرة المساحات والمسافات، وإنما هی حریة مسؤولة تقدر حق الأنا وتحترم رغبة الآخر، فلا یجوز على سبیل المثال استخدام الهاتف المصور من غیر رضا الطرف الآخر قریبا کان أو بعیدا، ومن ذلک کما یشیر الکرباسی: "هناک أشخاص لا یرغبون الاتصال بغیر مکاتبهم جعلوا البیت مکاناً للراحة وللعائلة فالاتصال بهم، مع العلم بعدم رغبة الطرف الآخر، محرّم"، فالناس مسلطون على أنفسهم، فلا یصح التدخل فی شؤونهم بلا رقیب أو حسیب، ومن ذلک تعمد بعض الشرکات الإعلانیة إلى استئذان صاحب البرید الکهربی (الالکترونی) فیما ترسل إلیه من إعلانات وتعطیه الخیار فی الاستمرار أو رفضه، لإدراکها بأهمیة حریة التلقی وتلافیا للإزعاج.

وعلى مستوى الأمة، فإن اختراق قوانین البلد، أو التعدی على حقوقه جریمة یعاقب علیها القانون الوضعی فضلا عن الحرمة الشرعیة، فعلى سبیل المثال، أن: "نشر أیة أخبار کاذبة أو کشف أیة أسرار لأشخاص أو دول محترمة الحقوق عبر هذه الوسائل لا یجوز"، وهذا دائر مدار مخالفة القانون أو احترامه، وعلى الإنسان احترام قوانین البلد، ذلک أن: "مخالفة القوانین العامة التی وضعت لأجل الحفاظ على البیئة أو الإنسان محرّم، کما لو منعت السلطات الخاصة من استخدام الهاتف النقال أثناء السیاقة فإن مخالفة ذلک محرّم، وبالأخص إذا کانت الدولة محترمة القوانین"، لأن المدار کما یؤکد الفقیه الغدیری، هو أن: "الإلتزام العام یقتضی رعایة جمیع القوانین الموضوعة لأفراد المجتمع وإذا کانت هناک شبهة شرعیة فیقتصر علیها حسب المورد".

واحترام القوانین الموضوعة لخدمة الإنسان وتنظیم عمل وسائل الإتصال واجب على الإنسان بغض النظر عن البلد موطنا کان أو مهجرا، بلدا مسلما کان أو غیر مسلم، ولذلک یرى الفقیه الغدیری أن احترام القانون سیان فی البلد المسلم أو غیر المسلم، ذلک أنه: "إذا کانت الدولة غیر مسلمة والتزم الإنسان برعایة قوانینها ضمن القرار العام، فیجب العمل حسب التعاقد، کما هو الحال للمسلمین المقیمین فی البلاد الغربیة فإنهم ملزمون باحترام قوانین تلک الدول أولا وبالذات، وثانیا بالعرض، أی أصالة أو بالتبع"، وفی اعتقادی أن مسؤولیة المسلم فی البلدان غیر المسلمة تعظم وتکبر، لأن وسائل الإعلام على الأعم الأغلب، وهی جزء من وسائل الاتصالات، ناظرة إلى فعال المسلمین وأدائهم لا إلى أصل الإسلام وقواعده، ولهذا فأیة إساءة للقوانین تنعکس سلبا على الإسلام والمسلمین، لأن المجتمعات غیر المسلمة تقرأ الإسلام عبر صفحات کف المسلم وما تجنیه یداه فإن أحسن أحسن للإسلام وإن أساء أساء للإسلام!

معالجات حدیثة

ومن الطبیعی أن کل وسیلة أو آلة خاضعة لقانون المنفعة والمضرة، دون أن تدخل حیز التحریم الکلی، کما أن إحترام القوانین لا یعطی الحق الکامل للسلطة الاعتداء على حقوق المجتمع وحریته، وإن کانت الحکومة منتخبة، إلا فی إطارات ضیقة للغایة، تفرضها المصلحة العامة من باب تغلیب العام على الخاص، فکما لا یجوز استخدام وسائل الاتصال فی أی وجه من وجوه الحرام فإنه وبنظر الفقیه الکرباسی: "لا یجوز للشرکة المسؤولة أو الدولة التنصت على المکالمات الهاتفیة وکل وسائل الاتصال إلا فی ظروف استثنائیة وبإذن حاکم الشرع" والسبب فی ذلک کما یشیر الفقیه الغدیری: "لکونه من مصادیق التجسس المحرّم، ولا یجوز التدخل فی الشؤون الشخصیة إلا أن یکون هنا داع آخر من حفظ الدین والبلد الإسلامی وأمثاله، فیتوقف الأمر حینئذ على الإذن من الحاکم الشرعی، وفی ظروف معیّنة وشرائط خاصة، من غیر تعدٍّ للقیود المحدّدة".

وفی جانب آخر لا یصح استخدام وسائل الاتصالات الحدیثة للترویج إلى ما هو محرّم ومناف للأخلاق والفطرة الإنسانیة والأعراف الإجتماعیة السلیمة، من هنا: "لا یجوز استخدام هذه الوسائل فی الأمور المحرمة کالدعایة للخمر والفاحشة أو نقل بیانات الإرهابیین والقتلة وما فیه تقویة لهم ولأعداء الإسلام والمسلمین"، وبإزاء هذه الحرمة فی التبلیغ لدعاة الإرهاب والتطرف الذین یستغلون وسائل الاتصال الحدیثة للوصول إلى عقل الإنسان والتشویش على فطرته السلیمة واستغفال القصّر والشباب والشابات، فإنه من باب أولى: "لا یجوز بأی شکل من الأشکال استخدام الهواتف النقالة فی الأعمال الإنتحاریة والتفجیرات"، والمسألة لا تحتاج إلى عناء تفکیر، والعلة کما یؤکد المعد: "لکونه من مصادیق المعاونة فی قتل النفوس ونهب الأموال وإیجاد الخوف فی قلوب الناس وسلب الأجواء الأمنیة فی المجتمع ونقض السلام وهدم بُنیة الحیاة الإجتماعیة، وغصب حقوق البشر، وتقویة روح الإرهاب وتنمیة فکرة العنف" ولیس هذا الکلام ببعید عن تفکیر الفقیه الغدیری وإیمانه بحرمة العملیات الإنتحاریة حتى وإن ألبسها دعاتها لبوس العملیات الإستشهادیة.

فی الواقع أن "شریعة الإتصالات" التی تضمنت (76) مسألة فقهیة حدیثة تتناول قضیة إفرازات الثورة العلمیة فی مجال الإتصال مع (82) تعلیقاً غنیا بمفاهیم إسلامیة وشرعیة تواکب العصر وتطوره، تمثل قفزة نوعیة فی مجال التأسیس لفقه معاصر یعالج کل مستجدات العلم الحدیث بما یغنی المجتمع ویضع المرء على جادة الصواب ویحمی المعمورة من سلبیات العلوم الحدیثة وتداعیاتها.