دعم الموسوعة:
Menu

 

وبعضُ الحبس مفتاحُ خیر

 

مهما شرَّق المرء أو غرَّب، ومهما اغتنى أو افتقر فإن التربة منتهى مستقره المؤقت حیث جاء منها، وفیها یتساوى الجمیع فلا حسیب ولا نسیب، ولا عبد ولا حر، ولا رئیس ولا مرؤوس، ولا إمام ولا مأموم، الکل فی حساب الأرض سواء، ومن یمشی بین القبور ویقرأ الأسماء تتجلى عنده هذه الحقیقة التی یتغافل عنها البعض وهو إلیها صائر طال عمره أو قصر، وفی شمال غرب لندن حیث مقبرة المسلمین فی منطقة نورث وود (North Wood) التی أدأب على زیارتها بین الفینة والأخرى، فإن من عادتی أن أسیر بین القبور مُرتَّلا سورة یاسین على مهل وبصوت شبه مرتفع إذ ینعدم الزائرون أو هم أقل من أصابع الید الواحدة، وبین آیة وأخرى أقف أتفحص أسماء الراقدین بجنبی، فهنا یرقد شاعر وکاتب عراقی أحرص على قراءة سورة الفاتحة عنده لعامل القربى، ومن حوله وزیر خارجیة عراقی من العهد السابق، وطبیب مشهور، وأدیب معروف، وکریمة أدیب ودبلوماسی هدَّها المرض فی عنفوان الشباب، وزوجة یساری غزاه الشیب، ووالد وزیر وسیاسی من العهد الجدید یُشار له بالبنان، وطفلة قارئ قرآن ضربتها صاعقة بین الأهل والخلان، والقائمة تطول ونحن فیها مقیدون ننتظر سجّان المنون.

الکلُّ صائر إلى حتفه، وبین صائر وصائر فسحة من الخیر العاجل المستمر، الممتد أثره فی زمن الأرض والمتنعم به من یمشی على وجهها إلى ما شاء الله، ذلک هو "الوقف" أو بتعبیر الفقه (حبس العین وإسبال المنفعة)، فالوقف من حیث اللغة: السکون وعدم الحرکة، ومن حیث الإصطلاح: إخراج الشیء من مِلک الواقف المالک إلى مِلک خاص أو عام، أی حبس العین ووقفها للمنفعة العامة والخاصة، فالوقف هو الخیر العمیم الذی یأتی بالصالح لمن یرقد تحت الأرض ینتظر عالم النشور ویغدق بالخیر على المستفید من الوقف الخیری وهم کثیرون من جیل لآخر ویتمددون أفقیا زمانا ومکانا، ومن هنا ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع): "ستة تلحق المؤمن بعد موته: ولدٌ یُستغفر له، ومصحف یخلفه، وغرسٌ یغرسه، وقلیب –بئر- یحفره، وصدقةٌ یجریها، وسُنَّةٌ یؤخذ بها من بعده" الوسائل: 19/173.

ولأن الوقف الخیری فیه منافع کثیرة للأحیاء والأموات، فقد تناوله الفقهاء بالتفصیل وأکدوا علیه لخیر الأمة وصالحها، ومن هنا یأتی کتیب "شریعة الوقف" ضمن سلسلة الشرائع من ألف عنوان للفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق الکرباسی الذی صدر حدیثا (2011م) عن بیت العلم للنابهین ببیروت فی 56 صفحة من القطع الصغیر، قدّم وعلَّق علیه الفقیه آیة الله الشیخ حسن رضا الغدیری.

• الحبس الحضاری

لا أحد یحب الوقف بمعناه اللغوی ولا أحد یحب الحبس بمعناه الاصطلاحی، فهی من المفردات التی تبعث على الإشمئزاز، فالبرکة فی الحرکة والحرکة مجلبة للمنفعة، لکن الحبس فی الأمور الخیریة هی البرکة بعینها وهی الحرکة الدائمیة المنتجة، لأن الوقف هنا هو بمثابة تشغیل رأس المال فی المشاریع الإنتاجیة والحفاظ علیه والاستفادة من أرباحه فقط، ولمَّا کان رأس المال هی أملاک غیر منقولة، فإن ثمنها یرتفع مع مرور الزمن وبالتالی تتحقق الفائدة من منافعها بشکل مستمر وتصاعدی، وهذا هو السر فی تشریع الوقف بوصفه تشریعا حضاریا منتجاً خادما للأمة والمجتمع ما دام الوقف قائما، بل أنه یشبه إلى حد بعید السدود المائیة، فهی فی ظاهرها مانعة للمیاه من الحرکة وحابسة لها، ولکنها فی واقعها حافظة لمیاه الأمطار والأنهار من الهدر ومغذیة لمیاه السقی والشرب فضلا عن الطاقة المائیة والکهربائیة، فالفوائد جمّة بخاصة إذا کانت منافع الموقوفات متوزعة فی مشاریع کثیرة ومتنوعة تدخل مختلف مناحی الحیاة ومشاربها.

والوقف صورة من صور الإحسان على خلاف الزکاة التی هی نوع من أنواع الضریبة فی المفهوم الحدیث، فالأولى تقدم بصدر منشرح والثانیة یقدمها البعض کأنّه یصعَّد إلى السماء!، کما أن الدیمومة من شروط الوقف إذ: (یشترط فی الوقف أن یکون على نحو الدوام، فلا یصح أن یکون لفترة محددة وعلیه لا یصح وقفا بل جاز صدقةً أو إسبالاً)، فی حین أن الزکاة یتحقق استحصالها أو تقدیمها فی عام وتقل أو تنعدم فی عام آخر وربما ازدادت ولکنها بالقطع لیست دائمة، ومثلها الصدقة المنقطعة.

ولا یخفى أن الوقف هو (وجه من وجوه الضمان الإجتماعی بل والعمل الوطنی) کما یؤکد الفقیه الکرباسی، فالأوقاف ذات تأثیر مباشر على الموقف علیه ولهذا التأثیر امتدادات أفقیة وعمودیة، وقد خضعت هی الأخرى لتأثیرات السیاسة الیومیة، بل أنها دخلت فی الصراع السیاسی والعسکری، ومثال ذلک کما یشیر الفقیه الکرباسی، الثورة الجزائریة بالضد من الإستعمار الفرنسی حیث: (قامت مقاومة الجزائریین ضد المحتلین من واردات الأوقاف المستثمرة، حیث کانت إلى درجة کبیرة بحیث کانت تؤمِّن السلاح والعتاد کما وتؤهل المجاهدین، ومن هنا جاء القضاء على هذه الأوقاف واستولوا علیها حتى لا تکون بید المجتمع المسلم قوة تمکِّنه الوقوف أمام مخططات الأجنبی)، ومن هنا تأتی محاولات بعض الحکومات الإسئثار بالأوقاف ومنافعها أو السیطرة علیها وإسبال منافعها وصرفها فی موارد لم ینص علیها واقفها.

عالمیة الوقف

ما إن طرقت أسماعنا کلمات من قبیل: "الوقف" أو "الأوقاف" أو "الوقف الخیری" وأمثالها حتى تبادرت إلى الذهن کلمات من قبیل: "المسجد"، "الجامع"، "الحسینیة" أو "المیتم" وأمثالها، مما یعطی الانطباع العام للوهلة الأولى أن الوقف منحصر بالجامع أو المسجد أو الحسینیة، وربما کان هذا التصور هو السائد لقرون طویلة یوم کان المسجد یمثل مرکز القیادة بمسمیاتها المختلفة الدینیة والسیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة، ولکن مع تطور الحیاة المدنیة، فإن من الطبیعی أن تنشأ مراکز متنوعة لها علاقة مباشرة بحیاة المجتمع مع احتفاظ المسجد بقیمومته کمنبر دینی وسیاسی له قدرة توجیه الناس من خلال منابر صلاة الجمعة وفی المناسبات المختلفة کالعیدین.

فالوقف الخیری له مصادیق کثیرة ومتنوعة تدخل فی کل تفاصیل المجتمع وشؤونه، فهو کما یؤکد الفقیه الکرباسی: (عمل حضاری یؤدی دورا فاعلاً فی تلبیة حاجات الشعوب ویکون الملجأ الأنسب لها فی المضی قدماً لتطویر مجتمعاتنا والاستفادة من السبل المتاحة لأجل ذلک، سواء فی الحقل العبادی أو الثقافی أو التعلیمی أو غیرها من السبل التی تقوم علیها حضارة کل أمة وشریحة من شرائحها)، فالوقف لا یقتصر على الجامع أو المسجد أو الحسینیة أو المیتم، بل لا ینبغی التوقف على ذلک، فکل ما ینفع الناس فی حاضرهم ومستقبلهم فمن الصالح الوقف له، فما یتمناه الواقف من أجر فی حیاته أو فی مماته یأتیه من غیر الحصر بالمسمیات السابقة، فمن الجمیل أن یوقف إلى جانب الجامع: مدرسة وجامعة وهیئة ثقافیة ومؤسسة بحثیة ومرکزاً صحیًّا وهیئة إجتماعیة ومنشئة إنسانیة، ودار طباعة ونشر، وکل ما یخدم المجتمع ولا ینصرف إلى المراکز العبادیة فقط، لأن صلاح المجتمع وخیره هو قمة العبادة، فالصلاة عبادة فردیة وخدمة المجتمع عبادة جماعیة، ولذلک یرى الفقیه الکرباسی أنه: (یصح الوقف على المصالح العامة کالجسور والطرق والمساجد والمراقد وهو فی الواقع وقف لصالح المسلمین) بل ویزید الفقیه الغدیری فی تعلیقه: (بل الحق أنه وقف لعموم الناس، ومنهم المسلمون) فالمنفعة تصیب غیر المسلم أیضا الذی یعیش بین أظهر المسلمین.

وربما اعترض البعض بأن الوقف على المصالح العامة یشمل الفاسق أیضا، وهنا یرى الفقیه الکرباسی أنه: (یجوز الوقف على المسلمین وإن کان فیهم من الفُسَّاق، ولکن تحدیده بالفُسَّاق لا یجوز)، وهذه نظرة حضاریة من أجل تعمیم فائدة الوقف الخیری على جمیع المواطنین لأن المراد خدمة عموم المجتمع على المدى الطویل، وإذا کان الفقیه الکرباسی یضیق من شروط الموقوف علیه ویخرج من عموم الفائدة الملحد والمشرک والکتابی إلا فی بعض الوجوه بغرض الهدایة مثلا فإن الفقیه الغدیری یوسع من مساحة المستفیدین من الوقف ویرى أن: (القول بعدم صحة الوقف على الملحد أو المشرک أو الکتابی نظر، وذلک للإطلاقات والعمومیات المتَّجهة فی الأدلة وعدم وجود دلیل قطعی على المنع، إلاَّ إذا کان حربیاً معانداً).

ویلاحظ أن المجتمع الإسلامی فی العصور الأولى کان سریع التطور فی العلوم المختلفة وکان سباقا فیها، وربما یرجع فی أحد عوامل قوته إلى تعامله الإیجابی المتنوع مع الوقف الخیری، فکان الواقفون إلى جانب المساجد والجوامع یسبلون المنافع على المنشآت الأخرى کالمدارس والجامعات والمبرّات والمستشفیات، بل أن الأذکیاء من الواقفین کما یشیر الفقیه الکرباسی: (کانوا لا یکتفون بوقف العیِّنة أو المؤسسة التی هی حاجة ملحَّة للشعوب بل یشفعونه بوقف سلسلة من العقارات لأجل الإستثمار فی دعم تلک المؤسسة کی لا تبقى عائمة، وفی ذلک ضمانة لاستمراریة المشروع وتشغیل لمجموعة من الید العاملة ودفع للحرکة الاقتصادیة)، وقد وقفت على نص بخط الید لوصیة جدی لأبی الحاج علی بن عبد الحمید بن عمران البغدادی الخزرجی (1857- 1909م) مؤرخة فی 4 محرم عام 1327هـ (1909م)، إذ وجدت أن ثلث أملاکه فی بغداد وکربلاء، منها 620 حصة (سهما) بقیمة 6200 لیرة من بین ستة آلاف سهم هی مجموع أسهم سکة الحدید التی أسسها الوالی العثمانی مدحت باشا (1822- 1884م) والتی کانت قائمة بین بغداد والکاظمیة (التراموای- الگاری) فی الفترة (1869-1946م)، کان قد أوقف منافعها فی موارد عبادیة وإجتماعیة، من قبیل تزویج الطلبة، القیام بجنائز أموات الفقراء، ختان الفقراء من الأطفال، الإطعام فی شهر رمضان، سقایة الماء على مدار العام، رد المظالم للفقراء، الصرف على الفقراء من زوار العتبات المقدسة، والصرف على فقراء الأسرة وغیرها، فهذه عیِّنة من موارد الأوقاف وصرفها وهی قائمة حتى یومنا هذا رغم مرون أکثر من قرن على رحیل واقفها المدفون فی رواق الإمام الحسین(ع) من جهة الرجل، تعطی الدلالة الکاملة أن الوقفَ نهرٌ خیره عمیم مستمر.

فالوقف وإن کان فی ظاهره استقطاعاً لمُلک المالک فی حیاته لیس للورثة من حقٍّ فی عینه، ولکنه فی واقع الحال انتشال للأمة یقیها من أمراض کثیرة إجتماعیة ومادیة ویدفع عنها عوارض الفقر، ویحصّنها سیاسیا واقتصادیا، وإذا ما تکاثرت المنافع وتوزعت على مشارب عدة استطاعت الأمة أن تستعید مجدها وتنتعش فی الکثیر من مناحی الحیاة، وتتوسع مدیَّات الاستفادة مدینیاً ومدنیاً وحضاریاً.