دعم الموسوعة:
Menu

 

الموازنة الحرجة بین خیمة الوالدین وعشِّ الزوجیة!

 

بین الفینة والأخرى یقوم أولادنا بحرکات عفویة أو مقصودة تذکرنا بسالف الأیام وفعالنا مع آبائنا الموزونة والمنفلتة، وفی بعض الأحیان نقدم على أفعال یعترض علیها الأبناء، فنأخذهم بالحسنى وربما قلنا لهم لا تثریب علیکم الیوم ولکن ستتذکروننا عندما تقعون مع أولادکم فی الموقف نفسه وتتخذون الإجراء نفسه أو أشد، ربما لا یدرک الأبناء قول الآباء، ولکنها سنة الحیاة وأن اختلفت الأزمان، فالتعامل بین الأبناء والأولاد لها مسلّمات بدیهة غیر خاضعة للتغییر بتبدل العصور والأزمان، فلا یصبح زینها شیناً ولا شینها زیناً، وإنما هو سلوک مجبول علیه الإنسان منذ الخلیقة، وفطرة إنسانیة یشترک فیها کل أبناء البشر بقطع النظر عن الجنس والبلد واللغة والدین، وهو تعامل متبادل لا یخضع للثقافة والتعلم، فالمتعلم یدرک حجم العلاقة بین الأب والإبن وبالعکس، وکذا غیر المتعلم، فالذی یعیش فی حضارة أو مدنیة متقدمة محکوم بعلاقات مع الآخر کأب أو إبن هی نفسها لدى الذی یعیش فی مجاهل أفریقیا أو أمریکا اللاتینیة، لأن الإنسان بإنسانیته وهی لا تتجزأ ولا تخضع لمقاییس الحضارة والثقافة.

ولا یعنی هذا أن العلاقات لا تتأثر بعوامل الزمن وتطور وسائل المواصلات والإتصالات التی أبدلت وعلى سبیل المثال الزیارات المنزلیة إلى مکالمات هاتفیة، والجلوس الأسری على مائدة منزلیة إلى طاولات المطاعم والأکلات السریعة، وإذا اعتبر البعض تطور وسائل الاتصالات خطرا على الدفء الأسری، فإن تطور وسائل المواصلات قرّبت البعید، کما أن وسائل الاتصالات أوجدت دائرة اتصال مباشر بین الوالدین والأبناء على بعد المسافات، وصارت الرسائل المکتوبة والاتصالات الهاتفیة وأمثالها أشبه بالقدیم نظراً للوسائل المتطورة والمباشرة، ومع کل هذا الزخم العلمی فإن العلاقات الأسریة لازالت تحتفظ بقدسیتها وهیبتها لأنها بالأساس علاقة کینونیة متجذِّرة تحکم الإنسان بالآخر کأب أو إبن، کما هی العبادة علاقة قائمة بین العبد والمعبود لا تتأثر سلباً بتطور العلوم ووسائل الإتصال والمواصلات حیث بقیت الصلاة کما هی وبقی الحج کما هو وبقی الصیام کما هو، ولذلک فلا غرو أن یربط القرآن الکریم العبادة بالوالدین، ویربط قبول العبادة بحسن التعامل مع الوالدین، فمن أساء لوالدیه لا تنفعه عبادته، بل إنَّ العبادة الحقیقیة تأتی من الإحسان إلى الوالدین، فمن أساء العلاقة بالوالدین وهو یقیم الفرائض ویزید علیها بالنوافل فلیتوقف قلیلاً ویفکر فیما هو فیه ولیستحضر أربع آیات فی القرآن الکریم تقرن الإحسان إلى الوالدین بعبادة خالق الإبن والوالدین، فی سورة البقرة الآیة: 82، وسورة الإسراء الآیة: 23، وسورة النساء الآیة: 36، وسورة الأنعام الآیة: 151، ولعلّ أظهر الآیات الأربع قوله تعالى من سورة الإسراء: (وَقَضَى رَبُّکَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِیَّاهُ وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً إِمَّا یَبْلُغَنَّ عِنْدَکَ الْکِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ کِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً کَرِیماً. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا کَمَا رَبَّیَانِی صَغِیراً) الآیة: 23 و24، ویلاحظ هنا أن الله تبارک الله استخدم مفردة "قضى" ذات المعنى البلیغ، وفی تقدیر الفقیه الشیخ حسن رضا الغدیری وهو یقدم لکتاب "شریعة الوالدین" للفقیه الشیخ محمد صادق بن محمد الکرباسی الصادر حدیثا (1433هـ - 2012م) عن بیت العلم للنابهین بیروت فی 64 صفحة، أن القرآن الکریم: (لم یقل "قدّر ربک" أو "أمر ربک" بل استخدم کلمة القضاء، ولعلّ السر فیه أن التقدیر والأمر ونحوهما من التعابیر الکلامیة المحکمة والحاکیة عن مولویة المتکلم القدیر ولکنه استخدم القضاء هنا لیعطی معنى الحتمیة والأبدیة غیر القابلة للتغییر)، وهذه الحتمیة متماهیة تماماً مع حتمیة أصل العبادة فی الخلق: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ) سورة الذاریات: 56.

صنوان لا یتقاطعان

وإلى جانب هذه الآیات الأربع فهناک آیة واحدة تعبر عن بر الوالدین کما جاء على لسان النبی یحیى (سورة مریم: 14)، وثلاث آیات یوصی الله سبحانه وتعالى الأولاد بالوالدین (سورة العنکبوت: 8، سورة لقمان: 14، وسورة الأحقاف: 15)، وآیتان تنهیان عن الإساءة إلى الوالدین (الاسراء: 23-24، والأحقاف: 17)، ومجمل القول أن لفظة الوالدین یُراد بها الأب والأم معاً، ووجد الفقیه الکرباسی أن مولدات الوالدین جاءت فی عشرین موضعاً من القرآن الکریم: (ثلاث مرفوعة وسبع مجرورة وجاءت واحدة بعنوان والدَیْکَ، وخمس بعنوان والدَیْه، وأربع بعنوان والدتی، مضافاً إلى ضمیر الخطاب والغائب والمتکلم، واستُخدم مذکَّراً ثلاث مرات ومؤنثاً مفرداً ثلاث مرات أیضاً وجمعاً مرة واحدة، وما یرتبط بموضوعنا – شریعة الوالدین- أربع عشرة آیة).

ویحکی اهتمام القرآن الکریم بالوالدین عن الأهمیة القصوى فی بناء العلاقات المجتمعیة السلیمة وتأثیرها المباشر على الأمة ومسیرتها بین الأمم، ولعِظم الإحسان إلى الوالدین فإن الوحی المنزل قرنه بخلوص العبادة ولفظ الشرک، وبتعبیر الفقیه الغدیری وهو یستظهر علة المقارنة: (إن العبادة من الأمور الثابتة لله تعالى أی أنها حقٌّ من حقوقه وکذلک الإحسان بالوالدین فهی من الأمور الثابتة لهما أی من حقهما، ولقد أوجب الله تعالى على الأولاد أن یؤدوها عیناً کما أوجب على العباد أن یؤدّوا حقه أی العبادة..)، ولأن الجنة لا یدخلها تارک الصلاة فإنَّ الذی یسیء الأدب فی ساحة الوالدین ویغضبهما ویترک الدمعة عالقة فی أجفانهما یُحرم من ریحها، وقد حذّر رسول الرحمة الإنسانیة محمد(ص) أولئک الذین یعقون الوالدین بقوله: (إیّاکم وعقوق الوالدین فإن ریح الجنة توجد من مسیرة ألف عام ولا یجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شیخ زان ولا جار إزاره خیلاء إنما الکبریاء لله رب العالمین).

فللوالدین حقوق فی رقبة الأبناء کما هی فی رقبة الوالدین، وضعها آیة الله الکرباسی فی 75 حکماً مع 61 تعلیقاً لآیة الله الغدیری، وکلها تنحصر فی مفردة الإحسان وطلب رضاهما فضلا عن عدم الإضرار بهما، کما إنَّ الوالدین فی المفهوم الإسلامی لا ینحصر بالأم والأب المباشرین فهو عام یشمل (الأجداد والجدات من الطرفین الأب والأم فأب الأب وأمه وأب الأم وأمها هما من الأجداد والجدات وجمیعهم کانوا ممن ولدوا الآباء والأمهات).

ولا ینصرفنَّ الذهن إلى أن اقتران عبادة الرب بالإحسان إلى المربوبین من الوالدین قاعدة لیست أبدیة وأن عراها تنفصم إذا کان أحد الوالدین أو کلاهما شطَّ عن الدین والملة، من هنا یرى الفقیه الکرباسی أنه: (إذا کان أحد الوالدین خارجَین عن الملّة فلا تسقط واجبات الأولاد تجاههما)، کما أن: (على الأولاد زیارة الوالدین حتى وإن بقیا على الکفر، إلا إذا رفضا استقبالهم)

• صفحات مطویة

بید أنَّ الإحسان إلى الوالدین لیس کتاباً مفتوحاً على آخره، فهناک صفحات على الولد (ذکراً أو أنثى) طیها وعدم الوقوف عندها من قبیل: (إذا کان طلب الوالدین غیر مشروع، فلا یجوز الإستجابة، کما لو طلبا شراء الخمر لهما) کما: (إذا طلب أحد الوالدین ترک بعض الواجبات من الأولاد، کأن یطلب أحدهما أن تخلع البنت حجابها، أو أن یحلق الإبن لحیته، لا یجوز اتِّباعهما وتلبیة طلبهما)، وقد تذهب العاطفة أو الغضب بالوالدین أو أحدهما للضغط على الإبن أو البنت بما فیه خراب البیت مثل أن: (یطلب أحد الوالدین أو کلاهما من الإبن طلاق زوجته لعدم ارتیاحهما من الکنَّة، فلا یصح أن یقوم الإبن بإطاعة الوالدین بحجة أن طاعة الوالدین واجبة وأنهما یعقانه إن لم یطلق زوجته).

ومن الأمور الباعثة على غضب السماء حظر الأبناء دون تجدید الحیاة الزوجیة لأحد الوالدین: (فلو أنّ الإبن قام بمنع والدته من الزواج بعد وفاة أبیه وهی راغبة فی ذلک فإن ذلک یؤذیها بالطبع فهذا لا شک بحرمته)، وفی اعتقادی أن من الإحسان الى الوالدین هو السعی لتزویج أحدهما إذا فقد القرین لسبب أو لآخر، لأن الأب إذا فقد زوجته فإن الأبناء أو الکنَّة لا یشکلون بدیلاً عن الوحدة التی یعیشها، فهو بحاجة إلى من یأنس إلیها إلا إذا ارتضى لنفسه الوحدة، والأمر ینسحب على الأم أیضا وإن کانت الأخیرة کما دلت التجارب أکثر صبراً وأحرص على البقاء أرملة لرعایة الأبناء والأحفاد، إلا أن الأرملة بوجود الأبناء تعتصم بالصمت فی کثیر من الأحیان ولا تفصح عن رغبتها، فینبغی فیما أرى من واقع التجربة الحیاتیة أن على الأبناء أن یمهدوا السبیل لزواج الأب الأرمل أو المطلق وکذا الأم الأرملة أو المطلقة، وأن لا یقفوا حجر عثرة أمام سنّة الحیاة فی تجدید فراش الزوجیة ما بلغ عمر الزوجین مبلغا.

ولا یخفى أن الکثیر من المشاکل التی تقطع حبل الوصال بین الوالدین والأبناء المتزوجین منشؤها العلاقة المتأزمة بین الأم والکنَّة (زوجة الإبن) والشدّ والجذب بین الأم والزوجة على الإستئثار بسیء الحظ، حتى جرت مثلا (لو العمّة تحب الکنَّة کان إبلیس دخل الجنّة) وهنا یقع الزوج (الإبن) بین نارین، بین إطاعة الأم کلازمة للإحسان إلى الوالدین وإرضاء الزوجة کلازمة للحیاة الزوجیة واستمرارها وتکوین أسرة جدیدة، وأعقل الأزواج من وازن بین الحقّین شریطة أن لا یکون على حساب خراب البیوت، لأنه ابتداءاً کما یذهب الکرباسی: (لا یجب على الکنَّة القیام بمهام والدَیَ الزوج، وإن فعلت فإن لها أجراً کبیراً)، ومقتضى الأمر: (إذا کان عدم رضا الوالدین على الأولاد یکمن فی أنَّ الکنَّة لا تطیعهما، فلا عبرة بذلک لأنها غیر مأمورة شرعاً بإطاعتهما)، وفی المقابل: (لا یحق للزوجة منع زوجها من زیارة والدیه کما لا یحق للوالدین منع الإبن من ممارسة الحقوق المفروضة علیه تجاه زوجته وأولادها)، وبالنسبة للزوجة هی الأخرى علیها مراعاة التوازن فی متطلبات بیت الزوجیة وإطاعة والدَیْها، فعلى سبیل المثال: (إذا فرض أحد الوالدین بعض الأمور على بنتهما بما ینافی حقوق زوجها، فلا یجوز لها إطاعتهما فی ذلک)، وذلک لبیت الزوجیة خصوصیة تتمثل فیها حقوق الزوج وحقوق الأبناء وبناء أسرة جدیدة، کما أنه بالإمکان إرضاء الوالدین بالحسنى، لکن أن یترک الباب مفتوحا أمام ریاح المشاکل حتى تنخر أرَضَتُها ببیت الزوجیة إنما هو سلوک غیر موزون یمثل معضلاً کبیراً فی الحیاة الإجتماعیة یحمل معه معاول الطلاق، کما ینبغی على الوالدین أن لا تأخذهما العزة بالأبوَّة فیبتعدا کثیراً عن جادة الصواب فیکونان کلاهما أو أحدهما مدعاة لخراب بیت الزوجیة للإبن أو البنت، فسعادة الإبن فی بیته والبنت فی بیتها بین زوجها وأبنائها من أکبر السعادات وهی تنشر بعطرها فی أجواء المجتمع کله، لأن المجتمع السلیم هو مجموع الأسر السلیمة، ونشأة الأحفاد فی أجواء نظیفة هو مکسب کبیر للوالدین والأجداد والجدات، ومکسب للمجتمع.

بالتأکید لیست فی الحیاة الأسریة والإجتماعیة مدینة فاضلة معصومة من الخطأ والزلل، ولا یخلو منزل من مشاکل، ولذلک قالوا (البیوت أسرار)، والإنسان بطبعه البشری الأرضی یکابد فی الحیاة الدنیا وهو معلقٌ بین الخوف والرجاء، بین الأمل والألم، بین الفرح والترح، بین تلبیة رغبات النفس وتحقیق واجبات الأسرة، والخیر کل الخیر فی خلق التوازن الأسری بین دفء الوالدین وعش الزوجیة، وهی معادلة تبدو صعبة المنال ولکنها لیست بالمستحیلة، والتعرف على شریعة الوالدین وأحکامها أوّل العتبة فی سلّم التعامل الأسری السلیم.