دعم الموسوعة:
Menu

المنهاج

دراسة في الجزء الأول من كتاب "الحسين و التشريع الإسلامي"

للبحاثة المحقق آية اللّه الشيخ محمّد صادق محمّد الكرباسي

 

• الدكتور وليد سعيد البياتي

مقدمة الناشر

هذا الكتاب دراسة تحليلية حول كتاب الحسين و التشريع الإسلامي ـ الجزء الأول ـ و هو أحد أجزاء دائرة المعارف الحسينية الكبرى التي نافت أجزاؤها الخمسمائة و خمسون جزءاً، و هي الموسوعة التي إحتلت مقامها المتقدم بين دوائر المعارف التي أُلفت حتى الآن، و لقد حازت قصب السبق في عدد أجزائها، و في مضمونها، و بالتالي كانت محطَّ أنظار الكُتَّاب و الباحثين و المُحللين، و انشغلت الأوساط العلمية و الأدبية و الفكرية عامة بالحديث عنها و عن مؤلفها آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي و تحليل مضامين أجزائها.

إذن هذا الكتاب هو دراسة تحليلية حول جزء واحدٍ فقط من أجزائها التي طبعت حتى الآن، و هي خمسة و عشرون جزءاً.alminhaj-frontcover

و إسهاماً منا في إلقاء الضوء على دائرة المعارف الحسينية و على شخص الإمام الحسين (عليه السلام) و علاقته بالتشريع الإسلامي نقدِّم هذا الكتاب ـ الدراسة ـ للمكتبة الإسلامية ليكون رافداً يصب في نهر تلك الموسوعة الكبرى خاصة و أنها دراسة من قبل أكاديمي له ماضٍ عريق في التأليف و البحث و التدريس ألا هو الدكتور الفاضل و الكاتب المحقق السيد وليد البياتي رعاه الله.

لقد أراد المؤلف أن يفي هذه الموسوعة و مؤلفها حقها كما نستنتج من مقدمته، لذلك قام بوضع هذه الدراسة، و سعى في طباعتها لتكون كما أراد، و نحن نسأل الله سبحانه و تعالى أن تكون كما أراد، و الحمد لله رب العالمين.

2/2/1424 هـ

4/4/2003 م

 

المقدمة

ليس من البساطة التعرض لبحث و دراسة أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) و علاقته بالتشريع الإسلامي، ليس من ناحية سعة المصادر و حجمها، و الجهد الذي يحتاجه الباحث في هذا الأمر، و لكن لشمولية في فكر الإمام المعصوم، و لحجيته باعتباره حجة الله عزّ وجل، و للأصول الإلهية التي هي المرجع الأصيل في فكره، فكيف إذا كان الإمام المعصوم هو أحد السبطين و ثاني سيدي شباب أهل الجنة، و ريحانة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) و الشهيد المظلوم صاحب واقعة كربلاء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، و هو من هو في الإمامة و الوصاية، و هو من هو في الآيات القرآنية و السنن النبوية.

و الباحث المحقق آية اللّه الكرباسي [1]، يدرك هذه الحقيقة، و هو يضع موسوعته العملاقة " دائرة المعارف الحسينية " و التي بلغت أجزاءها (556) مجلداً حتى هذه اللحظة. و كان لي عظيم الشرف أن أقوم بدراسة شاملة لمؤلَّف " الحسين و التشريع الإسلامي " و الذي يقع في عشرة أجزاء [2]. و ما نحن بصدده هو الجزء الأول من الأجزاء العشرة.

يقدم لنا الشيخ الكرباسي لمؤلَّفَه، بقوله: لست هنا لأضع مؤلفاً عن التشريع الإسلامي لبيان حقيقته، و تاريخه، و تطوره، لكنني هنا لأقدم على كتاب و لأول مرة في التأريخ يبحث عن دور الإمام الحسين (عليه السلام) في التشريع الإسلامي [3]، و بذلك يقدِّم لنا الباحث، الغاية من تأليفه لمؤلَّفه هذا، و هو يحدد أمور سبعة، يبحثها، و يلزم نفسه بالإيجاز الذي لا يخرج عن الموضوع، مع اعترافه بصعوبة عمل مثل هذا، و كان الباحث الكرباسي قد حدد منهجيته في العمل في تقدمته، شارحاً هذه المنهجية، وصولاً إلى الغاية أو المقصد، و هو تبيان صلة الإمام الحسين (عليه السلام) بالتشريع الإسلامي من مصادرها.

و قد ارتأيت في دراستي هذه إتباع نفس منهج الباحث الكرباسي في تقسيم المباحث و عنونتها، لأتمكن من إلقاء الضوء على كل مبحث، ثم الانتقال إلى الذي يليه، متبعاً نفس ما قام به الباحث من إعطاء المساحة أو الحجم المناسب له من الدراسة، و قد لاحظت عند دراستي لهذا الجزء الذي نحن بصدده، أن الباحث لم يقم بتحديد أبواب أو فصول، بل اكتفى وضع عنوان لكل مبحث "عنوان رئيسي" و هذا ما سأجري عليه في دراستي هذه.

و لما كنت أدرك كأكاديمي، أن القيام بأية دراسة لمؤلف ما، لا يمكن اعتبارها الشكل النهائي لفهم المؤلف، باعتبار أن العقل البشري (غير معصوم) و لا يبلغ مرحلة الكمال، و باعتبار أن العلم لا زال في مرحلة التطور، و الذي لم يتوقف عند حدّ معين حتى الآن، فإني آمل أن أتمكن مستقبلاً من القيام بدراسة أوسع للأجزاء العشرة من مجموعة " الحسين و التشريع الإسلامي " بعد إتمامها إن شاء الله، لأهمية التعرف على هذه الصلة العميقة بين أبا عبد الله الحسين الشهيد، و التشريع الإسلامي.

 

تمهيد

خلال بدء دراستي لاحظت أن الباحث الشيخ محمد صادق الكرباسي انتهج منهجاً جديدا في التعامل مع الرموز الذي اعتبرها المؤرخون، في تحديد تواريخ الأحداث، و الشخصيات، و هو ما ذكره في تقدمته، على اعتبار أن علماء التاريخ لم يذكروا سِنيّ و تواريخ جميع الأنبياء و الشخصيات أو الأحداث باعتبار أنه لا يزال قسماً منها نظريات و لم تصل إلى حد الثوابت، حيث اختلف العلماء في شخصية واحدة " حمورابي " بأربعة آلاف سنة أو أكثر [4] و على ذلك فإن الباحث الكرباسي اعتمد على الرموز التالية :

ق = قبل

هـ = هجري

م = ميلادي

ق. هـ = قبل الهجرة

ق. م = قبل الميلاد

هـ. ب = عام هبوط آدم (عليه السلام)

و هنا يقدم لنا الباحث العلامة الكرباسي منهجاً جديداً في فهم التاريخ و التعامل معه، و يعرض تصوراً علمياً و عقلانياً في آن واحد حول مفهوم التاريخ البشري و الوجود البشري على هذه البسيطة، ملاحظاً أن كل النظريات التي قيلت حول التاريخ القديم، ما هي إلا نظريات تبقى خاضعة للنقاش و الجدل و الدحض، ما دام العلم لا يزال في مرحلة التطور، و أنه لم يتوقف عند حدّ معين.

كما أن الباحث، أي باحث غير ملزم باستعمال و اعتماد مناهج الآخرين ما دامت كل هذه المناهج، هي أفكار وضعية، خاضعة لتحولات الزمن، و قابلة للدحض، ما بقي الوجود البشري، و أن كل الدراسات الأنثروبولوجية و الأحيائية، لم تقدم لنا حتى هذه اللحظة، حقيقة تاريخ البشرية، خارج المفهوم الإلهي و القرآني.

و هنا أتفق مع شيخنا العلامة الكراسي في أن المكتشفات الأثرية و الأنثروبولوجية عن عظام الجنس البشري تعود إلى تواريخ قديمة، مما يخالف تاريخ هبوط آدم (عليه السلام) على الكرة الأرضية، ليس بالضرورة أن تعود إلى نفس الجنس البشري الذي يُعد آدم (عليه السلام) أصله في البدء. إن هذه الأفكار تقودنا إلى دراسة التاريخ المقارن، و حتماً سيكون ذلك مفيداً لمعرفة البدايات الأولى للوجود البشري على هذه البسيطة.

 

ماهيّة التشريع

إن للبحث في ماهية التشريع، و فلسفته، يقود حتماً إلى البحث عن منشأ التشريع، و هذا طرح تساؤل، من هو المشرِّع الأول و لما كان " أصحاب الديانات السماوية، و بالأخص الموحدة منها ترى أن التشريع يتم من قبل الله سبحانه " [5] فإن هذا الأمر يُعدّ محسوساً من قبل الديانة الإسلامية، لكن الباحث الكرباسي لم يقف عند هذا الحسم فيما يخص هذا الموضوع، بل يحاول مناقشة ماهيّة المشرِّع حسب المفهوم العقلي، و لما كان المؤلف قد وضع ثلاثة تقسيمات لماهيّة المشرع :

1 ـ الله.

2 ـ الفرد.

3 ـ المجتمع.

يمكن أن يكون كل واحد منها مشرّعاً حسب المفهوم العقلي. و يقوم الباحث بمناقشة إمكانية أن يكون الفرد مصدراً للتشريع، ملاحظاً أن وضع القوانين و الأنظمة للبلاد و العباد " تتم في إطار الملك " [6]. و في هذه الحالة يبقى الرأي هو رأي الفرد (الملك أو الحاكم )، و إن كان حكم الفرد يختلف باختلاف البيئة الجغرافية، و القومية، و العقائدية، و تبقى هذه القوانين، قوانين وضعية خاضعة للجدال، و الدحض، و النفي، و إقامة الحجة عليها، و لا يمكن أن تكون حجة على الخالق، المشرِّع الأول.

و يمكن مناقشة نفس الموضوع من ناحية موقف الشعب كمشرّع عبر " المؤتمرات، أو اللجان و المجالس النيابية "، التي تضع القوانين بدلاً عن الشعب و الذي لا يمكن له وضع القوانين بأكمله، و هي ما تُعرف في أنظمة الحكم (الديمقراطية) و حتى هذه لا تصل بالشعوب إلى غاياتها، لأنها تبقى أداة بيد الإنتفاعيين.

إن دحض فكرة أن يكون الإنسان أو الشعب مشرّعاً، يعود بنا إلى إدراك حقيقة المشرّع الأول، و هو الله عَزَّ و جَلَّ.

و تتجلى حقيقة كون الله عَزَّ و جَلَّ المشرّع الأول، في الأمثلة التي ساقها العلامة الكرباسي حفظه الله، و هو يأخذ عن " بصائر الدرجات " ما روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الله علّم رسول الله الحلال و الحرام، و التأويل، و علّم رسول الله علمه كلّه علياً ". فتبقى هنا جملة حقائق :

1 ـ أن الله عَزَّ و جَلَّ هو المشرّع الأول و لا مشرّع غيره.

2 ـ أن هذه الشريعة أنزلت على رسول الله محمد (صلى الله عليه و آله و سلم).

3 ـ أن الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) قد علّم علمه كلّه الإمام عليّاً (عليه السلام).

و بعد هذا يبقى أن نسأل، ما هدف التشريع؟

يبدأ شيخنا الكرباسي هنا، بتعريف الهدف لغة و اصطلاحاً، و تلاحظ أن تكريس هدف التشريع في نقطتين أساسيتين لا يتجاوزهما، لهو أعمق نظرة فلسفية إلى الهدف المنشود.

1 ـ السعادة.

2 ـ النظام.

و لما كان التشريع الفردي أو تشريع الشعوب يبقى مرتبطاً بالمصالح الفردية، فهو لا يرقى إلى تحقيق السعادة للبشر، الخاضعين لتلك الشرائع، بينما نجد أن الشريعة الإسلامية تضع تحقيق السعادة في المرتبة الأولى. { ولو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض } [7]. و يلقي شيخنا الباحث الكرباسي نظرة عميقة و موجزة في آن واحد على هذه النقطة، في قول الله سبحانه، بعد بيان التعاليم الإلهية { لعلكم تفلحون } [8]، و يشرح شيخنا الباحث " و ما الفلاح إلا السعادة " [9] فيكون الفوز بالفلاح أو السعادة هو غاية و قمة ما نادت به الرسل و الأنبياء لدى تبليغهم رسالة الله. و لما كان من أسس السعادة هو تطبيق العدالة، و هذه الأخيرة لا تأتي إلا من المشرِّع الأول و هو الخالق العظيم.

و يأتي النظام كهدف ثان للتشريع باعتبار غاية أخرى، و هو مناقض للفوضى و الهرج، و المشرّع هنا يحدد علاقة الفرد بالخالق و علاقته بالآخرين، و يحدد مسؤولياته تجاه نفسه، و المجتمع. و لما كان شيخنا الباحث قد ألزم نفسه بالتبسيط و العمق في آن واحد، فهو يسوق هنا أقرب الأمثلة على كون النظام هدفاً للتشريع، من خلال وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) للإمامين الحسن و الحسين (عليهما السلام ): " أوصيكما و جميع ولدي و مَن بلغه كتابي، بتقوى الله، و نظم أمركم " [10].

مما تجدر ملاحظته أن الباحث المؤلف لا يستعير الأمثلة و الأفكار من مصادرها، استعارة عمياء، و إنما يقوم بتوظيف هذه الأمثلة و الاستعارات وفق منهج دقيق، حتى تكون عوناً له لدى إيضاح فكرته.

 

تاريخ التشريع

يقع الاهتمام بتدوين تاريخ التشريع و الشرائع السماوية في مجال حاجة العقل الإنساني لمعرفة بدايات نشوء عصر التشريع، فقد أرّخ المؤرخون للتشريع من خلال ما جاء من تواريخ الأنبياء و الرسل في الكتب السماوية، لعدم وجود مصدر آخر، فنجد ذلك في تواريخ الطبري [11]، و المسعودي [12]، و اليعقوبي [13]، و غيرهم كثير من أصحاب التواريخ و السير، و يمكن للباحث المدقق أن يجد ذلك التماثل في منهج كل واحد من هؤلاء، و قد درج كل المؤرخون الذين تلوهم على أتباع ذلك المنهج في تسلسل تواريخ الأنبياء و الرسل، أو في أعمارهم، و سنيّ نبوتهم و رسالاتهم، و لم يقم أي مؤرخ بالخروج على ذلك المنهج في تقسيم المراحل التاريخية.

و لما كان الباحث قد أخذ على عاتقه دراسة التشريع الإسلامي من خلال الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام )، باعتباره أحد مصادر التشريع، و ليس من خلال المنهج التاريخي، فإن الباحث انتهج على تقسيم تاريخ البشرية إلى ست مراحل، تبدأ الأولى بهبوط آدم (عليه السلام )، و تنتهي السادسة بظهور الإمام الحجة (عجل الله فرجه) [14].

و هذا التقسيم يعطي مجالاً أوسع لفهم حركة التاريخ و تطور مراحله، كما أن الباحث كان قد قدم، باعتماده رموزاً تاريخية مغايرة لما درج عليه المؤرخون، كل ذلك لقناعته بعقلة الباحث المجدّ بعدم ضرورة الاعتماد على ما تعارف عليه، بل إنه يرى أحقية الاعتماد " على ما اشتهر من أصحابنا من أولي الاختصاص " [15].

 

الحسين و تاريخ التشريع السماوي

إن الاعتراف بالأصول الإلهية للتشريع يقودنا إلى فهم علاقة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بالتشريع، و يقدم لنا الباحث نظرة واقعية لمفهوم الأصول الإلهية للتشريع من خلال سلاسل الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) و سلاسل أوصيائهم. و إذا كنا نلاحظ ذلك التشابه و التماثل في بعض الأحيان نصوص الكتب السماوية [16]، فلأن المصدر واحد، و الباحث الكرباسي في اعتماده على تاريخ هبوط آدم (عليه السلام )، و حسابه على تاريخ قبل الهجرة (ق. هـ )، يقدم لنا تصوراً منطقياً عن الفترة الزمنية بين آدم و بقية الأنبياء و الرسل، كما أنه يقوض كل معلوماتنا التاريخية الأكاديمية عن تأريخ آدم (عليه السلام) [17]، و تواريخ الأنبياء و الرسل و أوصيائهم، من خلال دراسة تاريخية مقارنة، كما يلاحظ أن بعض الشرائع تأتي لتنسخ ما قبلها، و يدعو المشرع " الله " إلى الالتزام بالشرائع الحالية، و هذا ما ذكره القرآن الكريم في مواضع عدة.

و قد يسأل سائل ما علاقة الحسين (عليه السلام) بالتشريع من آدم (عليه السلام) إلى الرسول محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) ؟.

إن الله عَزَّ و جَلَّ عندما خلق آدم (عليه السلام) [18] و أنزله الأرض مع زوجته، أنزل عليه شريعة تتناسب مع بدء الحياة البشرية، الإنسانية، على سطح الأرض، التي لم يكن عليها من البشر إلا آدم و زوجته و من ثم أولاده، و من ذلك التأريخ و الشرائع الإلهية تتوالى على بني آدم، الذين كان الله يصطفي منهم الأنبياء و الرسل { إن الله اصطفى آدم و نوحاً و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين } [19] و هذا الاصطفاء كان تفضيلاً و تشريفاً لهؤلاء الأنبياء و الرسل و أوصيائهم على بقية البشر من بني آدم.

و استمرت الشرائع تتوالى على أنبياء الله و رسله بما يتناسب و كل عصر، و هي (الشرائع) كانت تزداد تفصيلاً و تطوراً بمرور الأزمنة و هذه حكمة إلهية. و عندما بعث الله عَزَّ و جَلَّ إبراهيم (عليه السلام) [20] بالرسالة، نسخت شريعته الحنيفية شريعة نوح (عليه السلام) [21]، لأن عصر إبراهيم كان أكثر تطوراً من عصر نوح (عليهما السلام). و لكن بعد انقضاء عهد شريعتي موسى و عيسى (عليهما السلام) و ظهور الشريعة المحمدية (الإسلام) الذي أنزله الله على رسولنا محمد بن عبد الله (صلى الله عليه و آله و سلم) [22] نجد أن الله يأمر بالعودة إلى شريعة إبراهيم { ما كان إبراهيم يهودياً و لا نصرانياً و لكن كان حنيفاً مسلماً و ما كان من المشركين * أن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين } [23]. و قال أيضاً { ثم أوحينا إليك أن اتَّبع ملّة إبراهيم حنيفاً و ما كان من المشركين } [24].

و لما كان رسولنا (صلى الله عليه و آله و سلم) من آل إبراهيم الذي اصطفاهم الله، فإن التشريع الإلهي يستمر عبر سلسلة الأوصياء من نسل إسماعيل بن إبراهيم (عليه السلام) إلى رسولنا محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) ثم منه في سلسلة الأوصياء " الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام )، أولهم الإمام علي بن أبي طالب و خاتمهم الإمام الحجة محمد بن الحسن " [25]. فالأئمة الأطهار هم ورثة الشرائع السماوية، و الإمام الشهيد الحسين (عليه السلام) هو أحد هؤلاء الأوصياء الورثة. و الشيخ الباحث الكرباسي يقدم لنا تفسيراً منطقياً من مصادره الإلهية لتوارث الشرائع السماوية [26].

إن مهمة الأوصياء تكمن في المحافظة على بيضة الإسلام الذي جاء به رسول الله محمد (صلى الله عليه و آله و سلم )، و عدم الانحراف به أو عنه، ما حدث في الشرائع السماوية الأخرى، و قد عصم الله عَزَّ و جَلَّ أئمته الأطهار من الخطايا و الزلات، صغيرها و كبيرها، و هي صفات تقترب من صفات الأنبياء و الرسل، بكونهم ليسوا أنبياءً و لا رسلاً، بل أوصياء و أمناء على رسالات ربهم و خاصة رسالة خاتم الأنبياء و الرسل محمد بن عبد الله (صلى الله عليه و آله و سلم).

و لا ينسى شيخنا الباحث، و هو يدون لرسالة الرسول الخاتم (صلى الله عليه و آله و سلم) أن يضع مقارنة موجزة و دقيقة في الفلسفة الفكرية من وراء الشرائع الثلاث الأخيرة، اليهودية، المسيحية، الإسلام.

فاليهود و لا يزالون واقعين تحت وَهْم (شعب الله المختار )، و شريعتهم تعالج بعض الأحكام الفردية و الطقوس الدينية، بينما نجد الفلسفة الفكرية من وراء الشريعة المسيحية تكمن في التسامح المطلق، و الغفران بلا حدود لكل أبنائها، و تعالج الشريعة الطقوس الدينية فقط، بينما الفلسفة الفكرية من وراء الشريعة الإسلامية تقوم على سواسية الإنسان بشكل عام، و تميزه بما يحمل من فكر و عقيدة، و نظام الإسلام يقوم على المصالح و المفاسد، بالنسبة للفرد و المجتمع، و شريعة الإسلام تمتاز بالشمولية و الاتساع، فهي تشمل كل مجالات الحياة الفردية و الاجتماعية، كما أنها لا تختص بقوم دون آخرين، و لا بمحيط جغرافي أو قومي محدد، بل أنها شريعة لكل الناس [27].

 

شرائع أخرى

يبحث الشيخ الكرباسي مفهوم التشريع في شرائع أخرى غير الشرائع السماوية المعروفة، و ذلك استكمالاً للبحث و الحجة في آن واحد. و هو يلقي الضوء على أهم ثلاث شرائع غير سماوية ذكرها أصحاب التواريخ، و حسب ما جاء في تسلسله :

1 ـ المجوسية.

2 ـ الصابئة.

3 ـ البوذية.

و على الرغم من أنه يقدم لنا موجزاً لتأريخ تلك الشرائع و ما ورد فيها، إلا أنه يتوقف بعض الشيء عند شريعة حمورابي " و لكن الذي يستحق و لو بإيجاز دراسته أو استعراضه هو شريعة حمورابي " [28]، باعتبار أن ما ورد فيها، ربما أخذه حمورابي من شريعتي نوح و إبراهيم [29]، مع ملاحظة أنه لم يذكرها في تسلسله أعلاه.

إن وجود شرائع غير سماوية تحوي بعض تشريعاتها ما موجود في الشرائع السماوية، يكون أحد الأمور التالية :

1 ـ أن مشرِّعوا الشرائع غير السماوية قد تأثروا بالشرائع السماوية التي عاصروها أو التي سبقتهم، كما لدى شريعة حمورابي و البوذية.

2 ـ أنها شرائع سماوية انحرفت ثم اندثرت أو بقي منها قليل (المجوسية) [30].

3 ـ أنها شرائع نسبت إلى الشرائع السماوية (الصابئة).

فدراسة تلك الشرائع يبين مدى أثر الشرائع السماوية في الشرائع الوضعية، البشرية، و في نفس الوقت مدى الفوارق الفكرية بين ما هو إلهي، و ما هو بشري.

 

نظرة الفقهاء إلى مصادر التشريع

لا بد لدراسة التشريع الإسلامي، مناقشة نظرة الفقهاء إلى مصادر التشريع، و دراسة المدارس التشريعية غير الإلهية، استكمالاً لمنهج البحث. و الباحث الكرباسي هنا يناقش ما تعارف عليه الفلاسفة من حصر المصادر المادية للقانون بشكل رئيسي في ثلاث فلسفات أو اتجاهات فكرية أو مدارس.

المدرسة المثالية: و تعرف بالقانون الطبيعي، و تتبنى أفكارها في وجود قيمة عليا، تسمو على جميع القيم، لكن هذه المدرسة لم تتمكن من تقديم نظرة شاملة للكون، مما أدى إلى ظهور اتجاهين، العقل، و الوحي، و منذ ظهور الفكر الفلسفي عند اليونان نجد ذلك الاتجاه بإتباع العقل، كونه أحد أهم مصادر التشريع عند الفلاسفة اليونان [31]، إذا ما تجرّد عن الهوى و المصلحة، بينما نجد أتباع الكنائس في العصر الوسيط (القرون الوسطى) 2 ـ 9 هـ (5 ـ 15 م) كانوا يعتقدون بأن الوحي الإلهي هو مصدر التشريع [32]، في حين أن بعض الفلاسفة، كالفيلسوف المسيحي سانت توماس الاكويني (632 ـ 673 هـ) " حاول التوفيق بين فكرة القانون السماوي و فكرة القانون العقلي الموروثة عن الفلاسفة اليونان " [33].

إن أهم ما يهمنا في هذا البحث هو ملاحظة شيخنا الباحث الكرباسي المتمثل في عقم المدرسة المثالية و قصورها في تحديد و حسم مسألة (مصدر التشريع )، و في تفسير مفاهيم الأنظمة الطبيعية و الاجتماعية. و أهم من ذلك فشلها في تحقيق العدالة، أو تفسير مفهوم القيم [34].

المدرسة الواقعية: يعود تاريخ الفلسفة الواقعية إلى القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي، و بدايات الثورة الصناعية و ظهور نزعتها المادية العلمية، على الرغم من أن بعض مؤرخي الفلسفة يعودون ببعض مذاهبها إلى بدايات القرن التاسع الهجري، و الذي عرف بالمذهب التاريخي في الفلسفة.

تتبنى المدرسة الواقعية فلسفة (الاعتراف بالواقع الملموس) [35]، وتنكر بذلك كل تصور فكري، (ميتافيزيقي) [36]، و تعتمد على منهج المشاهدة و التجربة، و قد تبنت الماركسية أحد مذاهب هذه المدرسة، و هو مذهب الحتمية التاريخية لتبني فلسفتها المادية.

و قد حاولت المدرسة الواقعية تقديم تفسيراً لنشأة القوانين أو الشرائع، و تتراوح هذه التفسيرات بين مقولة الفيلسوف الألماني (هرنج) التي تقول: " إن القانون وليد إرادة البشر و تدبيره، في دأبه على تحقيق التقدم في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي أو أن يكون القانون " وليد ارتباط وثيق بالبيئة الاجتماعية ". بينما يرى آخرون أن " ظاهرة التضامن الاجتماعي هي منشأ معظم القواعد الاجتماعية "، أو أن يكون التنازع الاجتماعي هو الدافع لنشوء القوانين.

قد تبدو مناقشة هذه الأفكار غير مجدية، و نحن نناقش التشريع الإسلامي، لكن جدوى المناقشة تكمن في الوصول إلى أصل مصدر (التشريع) من خلال دراسة مقارنة. و الباحث هنا مرة ثانية يقدم لنا تصوراً حقيقياً عن عجز و قصور الفلسفة الواقعية، باتجاهها و مذاهبها في تقديم تفسير للحقائق و قصورها عن أهم مهمة تقوم عليها الفلسفة، هو تحقيق العدالة و السعادة الإنسانية.

المدرسة التعادلية: و يمكن أن نطلق عليها اسم المدرسة التوفيقية، فقد تبنى مؤسسوها [37] تصور حالة وسط أو محطة وسطى بين المدرستين المثالية و الواقعية، و كحالة للتوفيق بين حقائق الواقع، و المثل العليا في تكوين القيم التي يحملها القانون، و ذلك بعد عجز كل من المدرستين السابقتين عن تقديم مفهوم متجانس بين حقائق الواقع و المثل العليا و تفسير كل مفهوم على حده بشكل منفصل يعد قصوراً في إدراك المعنى الشمولي لتفسير القانون من ناحية المنشأ و التطبيق.

و في بحثه يقوم الشيخ الكرباسي بتقديم تصور كافي عن المناهج التي تبناها مؤسساً هذه المدرسة، و يعرض تحليلاتهما معطياً لذلك مساحة طيبة من البحث، مقدماً لنا بذلك تصوراً عن مدى محاولات " الجمالان " في إيجاد حالة من التعادل و التوفيق بين المدرستين، من خلال عرض شبه تفصيلي للمدرسة التعادلية، غير متجاهلاً في الوقت ذاته تقديم تصور عن مفهوم المصالح عند أصحاب هذه المدرسة، من خلال ما تعارف عليه عامة فقهاء المسلمين على أن: " الأحكام الشرعية تابعة لدى التشريع للمصالح و المفاسد، فحرم ما يضر الإنسان، و كلف بما فيه المصلحة " [38]. مقدماً بذلك تصوراً عن مدى حكم المصلحة في تأسيس التشريع.

 

الأنظمة السائدة

بعد أن بحث المؤلف (الكرباسي) في المدارس الفلسفية التي قدمت تصوراتها و نظرياتها في منشأ التشريع و أصوله، يعود ليدرس " الأنظمة السائدة " التي هي نتاج لهذه الفلسفات، و التي تعد أمثلة تطبيقية للمناهج الفلسفية المتقدمة.

يناقش الباحث المؤلف النظامان اللذان يحكمان العالم (النظام الرأسمالي و النظام الاشتراكي)، مقدماً لمناقشته بالتعريف بهما، ملاحظاً في آن واحد أن النظامين السابقين بشكل عام اختارا من العلاقات الخمس ثلاث، و هي علاقة الفرد بالفرد، و علاقة الفرد بالمجتمع، و علاقة الفرد بالدولة، و أهملت العلاقتين الأُخرتين، و هما علاقة الفرد بالخالق، و علاقة الفرد بنفسه [39].

و قد تكفي هذه الملاحظة في إدراك قصور النظامين السابقين في فهم القيمة المعنوية و الوجودية للفرد، و التي لا تتأتى إلا من خلال " علاقة الفرد بالخالق، و علاقة الفرد بنفسه " و هما العلاقتان اللتان تم إهمالهما من قبل النظامين الرأسمالي و الاشتراكي، و سوف نرى المؤلف يناقش ذلك في تعرضه للنظام الرأسمالي و الاشتراكي، و سوف نرى المؤلف يناقش ذلك في تعرضه للنظام الرأسمالي.

كما يلاحظ المؤلف وجود نظم إسلامية عدها " ممارسات على طريق تطبيق النظام الإسلامي " [40].

و لما كانت تطبيقات كلا النظامين الرأسمالي و الاشتراكي لا تعدوان أن تكون نظاماً ملكياً أو جمهوراً و أنهما لا يختلفان في إدارة الحكم إلا من خلال التطبيق و الممارسة، فإن الباحث يسجل هنا ملاحظة مهمة هي أن كلاهما مستبد و يدعي أنه ينبذ الاستبداد و ينهج الشورى و الديمقراطية. كما يناقش المؤلف النظريات الثلاث في نشوء المعرفة، مقارناً ذلك بما تعارف عليه فلاسفة المسلمين في التأسيس لفهم المعرفة، و دورها في الوجود و في تحقيق المصالح الاجتماعية.

يؤرخ المؤلف لبدايات النظام الرأسمالي، عارضاً الأحداث و الأفكار التي أسست لظهوره، و التي كان للصراع بين الدولة و الكنيسة في العصور المسيحية الوسطى، عام 857 هـ (1453 م) و قيام الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي، ثم ظهور الدولة العثمانية و استيلائها على القسطنطينية.

يعطي الباحث مساحة واسعة لدراسة النظام الرأسمالي في هذا المبحث من ص 119 ـ 135 عارضاً كل الأفكار و الاتجاهات التي تبناها النظام، متنقلاً بين الأفكار الفلسفية و تطبيقاتها في تصور النظام الرأسمالي، كما يؤرخ الباحث لبدايات نشوء آخر و أهم اتجاهات النظام الرأسمالي، و نقصد به الاتجاه الليبرالي، الذي ظهر في القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي [41]، هذا الاتجاه الذي ظهر في أسبانيا و الذي شاع بعد ذلك في أوروبا، ثم أصبح إحدى الأسس التي تبناها مفكّري الرأسمالية الحالية، باعتبار أن النظام أو الاتجاه الليبرالي يدعو إلى حرية الفكر، و حرية التجارة، و حرية الملكية الخاصة. و هذا بدوره ارتبط بأفكار المساواة التي نادت بها الثورة الفرنسية. و في النهاية صار النظام الرأسمالي ينحو نحو الديمقراطية الليبرالية، و هذا ما تبناه الفيلسوف الأمريكي فوكويافا في كتابه المثير للجدل " نهاية التاريخ و الرجل الأخير " [42].

كما أن الباحث يعرض فكرة الحرية التي تبناها النظام الرأسمالي باعتبارها أساساً للنظام التشريعي الذي " يتأصل فلسفياً بالاستقلال المعنوي للإنسان " [43]. فالنظام الرأسمالي يرى حق الأفراد في المشاركة في سن القوانين و التشريعات، ما دام الفرد يملك الحرية التي نصّ عليها الدستور، و هذه القوانين و التشريعات مرتبطة بالمصلحة، " فالنظرة الليبرالية للإنسان دارت على أن الإنسان يسع قبل كل شيء إلى مصلحته الشخصية " [44].

إن دراسة نوعية و حجم هوامش و مصادر هذا الفصل يقدم تصوراً عن حجم الجهد الذي قام به المؤلف لبحث تأريخ هذا النظام و دراسة مناهجه و مباحثه، ليتسنى لنا بعد ذلك إدراك حجم القصور الذي ظهر على مناهج هذا النظام الرأسمالي عند دراستنا للنظام التشريعي الإسلامي.

 

النظام الاشتراكي :

يدرس الباحث المؤلف النظام الاشتراكي كنتاج للمدرسة الواقعية، إذ أنه سبق و أن ذكر عند دراسته للمدرسة الواقعية " و يصنف المذهب الاشتراكي و الشيوعي منها " [45]، و يتبنى النظام الاشتراكي " فلسفة مادية قائمة على نظرية مشاركة المجتمع في القرار و النتائج " (1).

و بعد أن قدم الباحث للنظام الاشتراكي في دراسته الأنظمة السائدة، فهو هنا يؤرخ له كما يؤرخ لظهور النظرية الشيوعية التي جاء بها ماركس كنقيض للنظام الرأسمالي الذي كان و لا يزال قائماً على (الفردية )، و يبحث في مصادر التشريع، فهو يدرس صياغة القوانين عند الاشتراكيين و الشيوعيين، الذين تبنّوا صياغات زعمائهم الكلاسيكيين (ماركس، أنجلز، لينين، ستالين) و غيرهم، كمصادر للتشريع القانوني. و بمرور الوقت " كانت المؤلفات الماركسية الكلاسيكية المصدر الوحيد للقانون الاشتراكي " [46].

و إلى جانب هذه المصادر استند المشرع الاشتراكي على " مقررات الحزب التي تتضمن أسس التشريع ". و على الرغم من أن مشرعي القانون الاشتراكي يقدمون تفسير القانون باعتباره " مجموعة قواعد السلوك الإنساني "، إلا أن النظام الاشتراكي يربط قواعد السلوك هذه بالبناء الاقتصادي حتى أصبح التشريع القانوني يعتمد كلياً على المسألة الاقتصادية، و يعدد الباحث (15) مصدراً، تعد المصادر الرئيسية للتشريع الاشتراكي، و كلها مجرد كتابات لـ " ماركس، أنجلز، لينين، ستالين، و خروتشوف ". و لما كانت هذه المصادر هي نتاج للعقلية الفردية، و أنها مجرد أفكار لأفراد، فهي تبقى داخل نطاق المنهج الفردي في التفكير، و لا تصلح أن تكون قوانين يخضع لها الآخرون.

و أهم ما يلاحظه المؤلف كقصور و عجز في هذه المناهج التشريعية هو " الاستبداد، و عدم التعددية السياسية، و حكومة الحزب الواحد، و استخدام القوة، و تحديد الحريات الفردية، و محاربة المبادىء و الأخلاق، و الإعراض عن الذات الإنسانية، و قمع الأسرة و الدين " [47].

و لما كان أهم ما يصبو إليه المشرع أن يعمل على تحقيق العدالة و السعادة للفرد و المجتمع مع الحفاظ على كينونيتهما، فإن القصور و العجز في مناهج التشريع لدى المشرع الاشتراكي واضحة في هذا المجال، فإلى نهاية الحقبة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق، نجد أن الاشتراكية لم تحقق السعادة للفرد و المجتمع.

 

النظام الإسلامي:

بعد أن يقوم الباحث بتعريف معنى الإسلام لغة و اصطلاحاً، يحدد منهج بحثه في هذا الفصل " الذي يهمنا بحثه يتمحور الحديث في أن الخالق هو الأعرف بمصالح مخلوقه و دقائق أموره و عليه فما فرض عليه أو نهاه عنه، هو الأفضل له عن غيره " [48].

فالأساس في المبحث هو ما أسست له الشريعة الإسلامية باعتبار أن التشريع إلهيّ المصدر، و أن الله عَزَّ و جَلَّ و هو الخالق، هو المشرِّع الأول و الوحيد، لكن الإسلام كفكر و شريعة و منهج، لا يلغي دور الإنسان، الفرد " و مع هذا فلم يلغ دور الإنسان في جوانب عديدة من النظام الذي يختاره لمجتمعه و شخصه، فيما لا ضرر فيه " [49].

و لما كان الباحث قد ألزم نفسه بدراسة التشريع لا التأريخ في هذا المجلد، فهو يتعرض إلى المنعطفات التي مرّ بها النظام الإسلامي و التي تركت آثارها في مناهج التشريع الإسلامي، هذه المنعطفات الثلاث الأساسية هي التي أسست للانحراف في مناهج التشريع الإسلامي.

الأول: بموت الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) عام 11 هـ، و ما رافقه من الخلاف بين الخط الهاشمي الذي يرى الخلافة منصوص عليها، و معيّنة من الله عَزَّ و جَلَّ و الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم )، و بين الخط الآخر الذي رفض ذلك، و فرض الخلافة على المسلمين.

الثاني: كان باستلام عثمان بن عفان الأمر عام 23 هـ، و ما قام به من تغييرات في مجال نظام الحكم، مما آل الأمر إلى ثورة المسلمين عليه و قتله.

الثالث: بتجرؤ معاوية بن أبي سفيان على الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) المنتخب عند فرقة، و المنصوص عليه عند فرقة أخرى، و ذلك عام 36 هـ، و إنشاء معاوية المحكمة الأموية الاستبدادية، أعاد فيها معالم الجاهلية، كما اعترف به المؤرخون، و هذا أول استقطاع للدولة الإسلامية، و إنشاء دويلات بدلاً من الدولة الإسلامية الواحدة العظمى [50].

و يلاحظ الباحث المؤلف منعطفات كثيرة أخرى " كانت الدولة الأموية بالذات قدوة و أسوة لها، و على مبانيها تأسست دول على المذهبية و الطائفية، و القومية، و القبلية، أخذت شرعيتها منها " [51].

و لما كان الأصل في التشريع هو تحقيق السعادة و العدل بين الأفراد، يلاحظ الباحث مجموعة من النقاط اعتمدها الإسلام في تشريع نظامه، ذكر في بحثه أبرزها :

1 ـ تكريم الإنسان.

2 ـ العقل.

3 ـ العلم.

4 ـ المحبة.

5 ـ الاتحاد.

6 ـ الحريّة.

7 ـ العدل.

8 ـ المساواة.

9 ـ النظم.

10 ـ الشورى.

11 ـ النزاهة و الإخلاص.

12 ـ المواهب و الكفاءات.

إن إلقاء نظرة فاحصة على هذه النقاط، نرى فيها كل ما حم به الفلاسفة و أصحاب الشرائع غير السماوية، و الذين طمحوا إلى تحقيق و لو بعضها، و فشلوا في ذلك لعدم قدرتهم على إيجاد ذلك التجانس بين الشريعة و المصلحة الحقيقية للفرد و المجتمع، لأن المصلحة لا تقع فقط ضمن القالب المادي أو القالب الروحي، بل يجب إيجاد نقاط من التواصل بينهما، مع إلقاء نظرة عميقة على المستقبل، و هذا لم يتحقق إلا ضمن الشرائع السماوية، و بالذات الشريعة الإسلامية التي هي آخر الشرائع و أكثرها نقاءً [52].

فالنظام الإسلامي و من خلال مصادره في التشريع [53] لم يسعى فقط إلى تحقيق السعادة و التكامل الاجتماعي للفرد و المجتمع، بل إنه عمل على تطبيق ذلك فعلاً، و هذا ما حدث منذ بدء نشوء الدولة الإسلامية التي أسسها الرسول محمد (صلى الله عليه و آله و سلم) بعد هجرته إلى المدينة المنورة.

و مما يحمد لشيخنا الباحث الكرباسي، و هو يبحث في تواريخ النظم و فلسفتها، هو ذلك التجرد العلمي و الإحاطة الفكرية بمختلف الاتجاهات الفكرية و الفلسفية و مدارسها، و لهذا نراه يتناول دراسة النظم، و هي من الدراسات المتخصصة، بروحية الباحث المجدّ في طريقه إلى الحقيقة، و قد وفقه الله دائماً في اختيار الأمثلة أو في عرضه للحجج من مصادرها، تأييداً لما هدف إليه في بحثه.

فالنظام الإسلامي الذي عاصر و لمدة تجاوزت الأربعة عشر قرناً أنظمة حكم و اتجاهات فكرية متعددة و متناقضة، لم تدفع به إلى زاوية النسيان أو الانحدار، فكان ينهض باستمرار، معلناً للآخرين عن عمق مناهجه، ثم ما نتج عنه من نظم حضارية عرفت فيما بعد باسم الحضارة الإسلامية.

 

-------------------------------------------------------------------------

[1] الكرباسي، البحاثة، المحقق آية الله، الشيخ محمد صادق بن محمد، كانت ولادته بجوار مرقد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في كربلاء المقدسة، في الخامس من شهر ذي الحجة الحرام عام 1366 هـ (20/10/1947 م )، و نشأ و ترعرع منذ نعومة أظفاره على مقربة من منهل العلم و الفضيلة و بين الأدباء و العلماء، مارس التدريس و التأليف، إدارة بعض الجوانب الاجتماعية و الدينية، و كان ينوب عن والده في إقامة الصلاة، و التدريس. و أسرة الكرباسي من الأسر العلمية المعروفة بالفضل، منذ عهد قديم حيث لم ينقطع عن هذا البيت العلماء و الأدباء، منذ أن حلّ جدهم الأكبر مالك الأشتر النخعي من بلاد اليمن في بلاد الحجاز، ثم استوطن الكوفة، و كان مالك الأشتر من حواريي الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) القائل فيه: " رحم الله مالكاً، لقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم) "، و عبّر عنه معاوية بن أبي سفيان، بعد اغتياله بالسمّ،: " كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمنيتان، قطعت أحدهما في صفين، و هو عمار بن ياسر، و قطعت الأخر اليوم، و هو مالك الأشتر ". راجع المرشد، العددان 11 ـ 12 السنة السادسة 1999.

[2] معالم دائرة المعارف الحسينية: 20.

[3] الكرباسي، محمد صادق، دائرة المعارف الحسينية، الحسين و التشريع الإسلامي: 1 / 11.

[4] راجع مصادر تاريخ العراق القديم.

[5] الكرباسي، محمد صادق محمد، الحسين و التشريع الإسلامي: 1 / 30.

[6] المصدر السابق: 31.

[7] سورة الأعراف، الآية: 66.

[8] سورة البقرة، الآية: 189.

[9] الكرباسي: 43.

[10] المصدر السابق، عن نهج البلاغة.

[11] الطبري، محمد بن جرير، توفي عام 310 هـ، له تاريخ الرسل و الملوك.

[12] المسعودي، علي بن الحسين، توفي عام 346 هـ، له تاريخ مروج الذهب.

[13] اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، توفي عام......، له تاريخ اليعقوبي.

[14] الكرباسي: 52.

[15] المصدر السابق: 17.

[16] ما بقي صحيحاً من النصوص، و خاصة نصوص التوراة و الإنجيل (العهد القديم و الجديد) بعدما طرأ عليها من تحريف و تزوير أبعدها عن النص الإلهي، بل إنها تخالف النص الإلهي في أكثر الأحايين.

[17] اعتبر كل مؤرخي التأريخ القديم أن تاريخ هبوط آدم (عليه السلام) بين 10 ـ 40 ألف (ق. م).

[18] يذكر الكرباسي، محمد صادق، أن تاريخ خلق آدم على الأكثر نحو عام (6880 ق. هـ).

[19] سورة آل عمران، الآية: 33.

[20] يذكر الكرباسي أن إبراهيم (عليه السلام) ولد في الكوفة عام 4637 من الهبوط، أي (2243 ق. هـ).

[21] المصدر السابق: 63، راجع العسكري، عقائد الإسلام: 2 / 288.

[22] يذكر الكرباسي أن بعثة الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) تكون عام (6867 من الهبوط).

[23] سورة آل عمران، الآيتان: 67 ـ 68.

[24] سورة النمل، الآية: 123.

[25] لأجل متابعة سلاسل الأوصياء، يراجع عقائد الإسلام من القرآن الكريم الكتابين الأول و الثاني للعلامة المحقق السيد مرتضى العسكري. كما أن شيخنا الكرباسي يشير إلى هذه السلاسل في مؤلفه الحسين و التشريع الإسلامي.

[26] تلاحظ ذلك في زيارة وارث المشهورة للإمام الحسين (عليه السلام) ـ مفاتيح الجنان.

[27] راجع الكرباسي: 91.

[28] الكرباسي: 65.

[29] المصدر السابق: 63، الهامش: 96 ـ 97.

[30] المصدر السابق: 92.

[31] راجع د. بدوي، عبد الرحمن، تاريخ الفلسفة اليونانية.

[32] الكرباسي 98.

[33] المصدر السابق: 99.

[34] المصدر السابق: 99 ـ 100.

[35] المصدر السابق: 102.

[36] الميتافيزيقيا ـ ما وراء الواقع، راجع المصطلح الفلسفي.

[37] أحدث هذا التقسيم هما الدكتوران، مصطفى و عبد الحميد ابنا محمد الجمال، الكرباسي: 106.

[38] المصدر السابق: 106.

[39] المصدر السابق 111.

[40] المصدر السابق.

[41] المصدر السابق: 130، راجع الاتجاهات الفكرية المعاصرة.

[42] يعتبر فوكويافا، فرانسيس، في كتابه نهاية التاريخ و الرجل الأخير، أن النظام الليبرالي الرأسمالي الديمقراطي هو آخر الأنظمة التي ستبقى بعد انهيار بقية الأنظمة (يقصد النظام الشيوعي )، على الرغم من أنه يشير إلى أن النظام الإسلامي يبقى هو النظام الوحيد الذي يعد نداً للنظام الليبرالي الديمقراطي.

[43] الكرباسي: 131.

[44] المصدر السابق.

[45] الكرباسي: 102.

[46] الكرباسي: 131.

[47] المصدر السابق: 144، و للمزيد راجع نظرية القانون الاشتراكي.

[48] الكرباسي: 146.

[49] المصدر السابق.

[50] لمراجعة ذلك تأريخياً و تحليلياً يراجع العسكري، السيد مرتضى، معالم المدرستين.

[51] الكرباسي: 148.

[52] باعتبار أن الشرائع الأخرى دخل عليها التزييف و التزوير (اليهودية، و المسيحية).

[53] أحدد هنا المناهج التي اعتمدها آل البيت الأطهار (عليهم السلام) في التشريع و التي نص على أن الله عَزَّ و جَلَّ هو المشرع الوحيد، و أن القرآن الكريم هو مادة التشريع الأولى، و السُنّة مادته الثانية.