دعم الموسوعة:
Menu

 

رؤیة وسطیة فی تلاقی الحضارات

 

مهما شرّق المرء أو غرّب، ومهما نال من الدنیا حظوظها وإن فاق سلیمان (ع) فی سلطانه وقارون فی أمواله، فانه لا مناص من العیش مع الآخر والتناغم معه، فحتى الحیوانات الوحشیة والبریة، إنما تعیش فی قطعات وتجمعات، والطیور لا تغادر أعشاشها وتهاجر منفردة، وأسماک السالمون لا تغادر المیاه المالحة نحو المیاه العذبة لتضع بیضها على بعد مئات بل آلاف الأمیال إلا وهی فی تجمعات، فما بالک بالإنسان الذی اشتق اسمه من الأنس والمؤانسة، فانه لا یعدم الحاجة أبدا إلى الصدیق والرفیق فی الحضر والسفر، وعلیه کانت الکراهیة فی سفر الإنسان منفردا، کما کان السؤال عن الجار من مقدمات الحیاة والعشرة، ولذلک نقل عن النبی محمد (ص) أن حدود الجیرة هی لأربعین جاراً ، أی أن دار کل إنسان هی مرکز دائرة الجیرة من الاتجاهات الأربع، وبحسبة بسیطة فان القریة الصغیرة کلها جیرة لکل ساکنیها، ومن أعمال صلاة اللیل الإستغفار لأربعین مؤمناً، فعیش بلا أخوة وجیرة کسجن إنفرادی ولو فی الفردوس، وکما یقول الشاعر الجزائری المعاصر الدکتور عبد العزیز بن مختار شبّین، فی بیتین من بحر البسیط، خصّنا بهما:legislation friday frontcover

الإلفُ ما بیننا هذی یدٌ بیدٍ * * * معاً تضوعانِ أحلى من شذى الوردِ

ما العیشُ دون أخٍ حباً تُبادله * * * إلاّ کسجنٍ ولو فی جنّة الخلدِ

ولکل أمة، صغرت أو کبرت، زمان تجتمع فیه کأسرة واحدة، تتخذه عطلة، تنزع فیه إلى الراحة، وتنزع عن کاهلها جلباب العمل، فتقضی شطرا منه فی العبادة وشطرا فی التزاور وشطرا فی ارتیاد الأماکن العامة، تمارس طهارة الفطرة الإنسانیة المنزوعة على التآلف والإجتماع وإن تنوعت فی أمزجتها واختلفت فی مشاربها. فهناک أعیاد دینیة ووطنیة وقومیة، بعضها سنویة وأخرى أسبوعیة، فیوم السبت للیهود والأحد للنصارى والجمعة للمسلمین، وهکذا بالنسبة للأدیان الأخرى والمجتمعات، فالبوذ یحتفلون بعید فیساک (vesak day) مرة فی العام، ومثلهم یحتفل الهندوس بعید دیفالی (deepavali)، وتحتفل المجتمعات الإیرانیة والکردیة وغیرهما بیوم النوروز أو شمّ الربیع عند المصریین، ویحتفل التامیل وغیرهم بعید التایبوسام (thaipusam)، وهکذا لدى المجتمعات فی القارات الخمس، والقاسم المشترک فی کل هذه الأعیاد أنه یجمع الناس على مائدة من الأفراح فی جو یسوده دفء المحبة والوئام، کما أن معظمها تعتمد فی تحققها على حرکة جرمی القمر والشمس.

ولمتابعة یوم الجمعة، من حیث النشأة والسنن والتشریعات التی وضعها الله لهذا الیوم، صدر حدیثا کتاب (شریعة الجمعة) من تألیف الفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق الکرباسی، من تقدیم وتعلیق آیة الله الشیخ حسن رضا الغدیری، صادر عن بیت العلم للنابهین فی بیروت، من 64 صفحة من القطع المتوسط.

• حیاة النفوس

والنفوس کالأجساد تمل وتکل، بل إن الأمراض فی معظمها هی نتاج النفوس العلیلة، فإذا سلمت الأخیرة صحت الثانیة، وتتعب الأجساد ولکن تبقى النفوس سلیمة، فی حین إذا تعبت النفوس تعبت معها الأجساد، وعطلة الجمعة هی راحة للأبدان والأرواح، وذلک لخاصیة صلاة الجمعة وروحانیتها، وما یصحبها من تجمع المسلمین فی بیت الله، حیث یجد المرء متعة نفسیة بالتعبد ورؤیة الآخرین، ومن ثم تبادل الزیارات فی هذا الیوم الذی یعد عیدا من الأعیاد، وحسب حدیث الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "إن الله اختار من کل شیء شیئا، فاختار من الأیام الجمعة"، وعن الإمام موسى بن جعفر الکاظم (ع) فی فضل یوم الجمعة: "لیس للمسلمین عید کان أولى منه، عظّمه الله تبارک وتعالى، وعظّمه محمد (ص) فأمره أن یجعله عیداً"، ووفق استقراء الفقیه الکرباسی: "فاستناداً إلى هذه الروایات وغیرها یُفترض أن یتعامل معها المسلمون معاملة یوم العید، وتأتی صلاة الجمعة هنا بمثابة صلاة العید فی الفطر والأضحى"، وهی سنة السلف: "کانوا یتزاورون، ویعاون بعضهم بعضا، ویتخذونه یوم عطلتهم الأسبوعیة، ویریحون أنفسهم من الأتعاب المتراکمة علیهم طیلة أیام الأسبوع ویکسرون الرتابة التی خلّفتها تلک الأیام".

الوصل الحضاری

والعطلة الأسبوعیة أو العید، إنما تعبیر عن تجدید فی الحیاة الیومیة للإنسان، فالإسلام إنما جعل الجمعة عطلة وعیدا، أو غیرها من أعیاد المسلمین کالفطر والأضحى، لأنه دین الحیاة والعِشرة لا دین الموت والنفرة، ولأنه دین التطور والانفتاح على الآخر لا دین التقوقع والانغلاق على الذات، وکما یؤکد المؤلف أن قوانینه: "تتماشى مع سائر الأزمنة والأمکنة، وما هذا الانقباض أو الانحسار الحاصل إلا لأسباب دخیلة على الإسلام قد تکون تارة من سوء فهم بعض أنصاف المفکرین الذین خلطوا الرطب بالیابس وصوروا لنا الإسلام بأنه دین جمود ودین عسر، أو أننا ابتُلینا بمسؤولین وحکام أرادوا أن یُسیِّسوا الدین حسب مزاجهم ومصالحهم، فاختلط الحابل بالنابل، ودخل فی الإسلام ما لیس منه"، ومن ذلک التفکیر الخاطئ للعطلة، فمنهم من استغرق فی الملذات إلى الحد الذی اخرج الجمعة عن حریم الإلتزام وعرّض سلامة الأمن المجتمعی للخطر، ومن هم من استغرق فی انغلاقه فلا تراه فی هذا الیوم مبتسما أو ضاحکا مع إخوانه، مقطبا حاجبیه، کأن صاعقة نزلت علیه، لیس له من الهش والبش نصیب!

وهذه السوداویة فی فهم الإسلام هی التی جرأت الآخرین على الطعن به، ووصم المسلمین بالتخلف، مع أن القرآن الکریم یدعوهم لیل نهار إلى النظر فی آیات الله والتخلق بأخلاقه، وبذلک کما یؤکد البحاثة الکرباسی: "شوّهوا الإسلام، وهو ما فتح المجال أمام المستشرقین والمغرضین بأن ینالوا من الإسلام ویأخذوا جوانب من الآیات بتفسیرات هؤلاء أو یتعاملوا مع مرویات هؤلاء ویحتجوا علینا بهذه النصوص المزیّفة". ولا شک أن التفسیر الخاطئ للإسلام وتقدم المتفیقهین للبت فی أمور الدین، وتفسیر آیاته بما یرضی نزعاتهم وأهوائهم، وتراجع بعض العلماء عن إظهار علمهم لمواجهة البدع، هو الذی شجع أمثال النائب فی البرلمان الهولندی غیرت ویلدرز (geert wilders) على إنتاج فیلم (الفتنة) فی العام 2008م، من سبع عشرة دقیقة، والذی دمغ فیه الإسلام بالتخلف ونسب إلیه العنف وتصدیره، وأحسنت الداخلیة البریطانیة عندما منعته فی 12/2/2009 من دخول لندن رغم وصوله مطار هیثرو تحدیا لقرار المنع، حیث قدّرت أن عرض الفیلم یهدد السلم والأمن العام البریطانی.

إن أمثال أرباع رجال الدین لا أنصافهم والذین تسابق بعضهم على لبس العمة دون استحقاق علمی، وأمثال النائب الهولندی أو غیره، إنما بتطرفهم یرومون خراب العالم لا إصلاحه، فغایة العقلاء تمتین حلقات الوصل البشری لا زیادة حلقات الفصل الحضاری، ولذلک فإن الفقیه الکرباسی یرى: "إن المسلمین لابد وأن یسعوا إلى تلاقی الحضارات والوقوف أمام الداعین إلى صراع الحضارات، وذلک إتباعا لمنهجیة الإسلام الداعی إلى تلاقی الحضارات التی حکمت العالم منذ الخلیقة وحتى الحاضر، حیث بنی على ذلک، ومن هنا عُرف الإسلام بالوسطیة ووصف القرآن الکریم أمته بالأمة الوسط".

إثارات فقهیة

وتضمنت 130 مسألة فقهیة فی (شریعة الجمعة) إثارات فقهیة عدة، فمثلا یرى الشیخ الکرباسی جواز: "قراءة خطبتی الصلاة بغیر العربیة حسب أکثریة الحضور، ولکن فی تلاوة السورة والحمد والصلاة یؤکد على تلاوتها بالعربیة"، وکذلک: "یجوز ترجمة الخطبة عبر الأشخاص والآلات کما یجوز تعدد اللغات فی الخطبة الواحدة وتعدد الترجمات"، کما: "لا تصح صلاة الجمعة بإمامة المرأة وإن کانت فقیهة جامعة للشرائط مبسوطة الید، حتى على القول بوجوبها فی حالة الغیبة"، ولکن: "الظاهر صحة الجمعة بإمامة المرأة للنساء فی صلاة الجمعة الاستحبابیة وإن کان الأحوط ترکها"، غیر أن الشیخ الغدیری فی تعلیقه على إمامة المرأة یذهب إلى أن: "الظاهر الملاک واحد فی صحة إمامتها وعدمها من دون فرق بین صلاة الجمعة وغیرها من الصلوات، فإذا قلنا بصحة إمامتها فی صلاة الجمعة فلا مانع من إمامتها فی غیرها".

وهنا ینتقد الفقیه الکرباسی تدخل الحکومات العلمانیة بالدین، فی وقت تحرم على الدین التدخل بالسیاسة: "ومن الغریب أن الذین ینادون بفصل الدین عن السیاسة یزجون بأنوفهم فی الدین ویسیِّسونه حیث برزت ظاهرة سیاسیة فی بعض الدول العظمى وأخذت تؤم المرأة الرجال فی صلاة الجمعة بإیعاز من السلطات السیاسیة لضرب الإسلام وإیجاد الفرقة بین المسلمین".

کما ینتقد دعوة البعض إلى استبدال عطلة یوم الجمعة بیوم آخر، بدعوى التماشی مع الغرب، ویتساءل: "فلماذا لا نشهد دولة من الدول غیر الإسلامیة تتحول فیها عطلتهم الرسمیة إلى یوم الجمعة؟ بل إن هناک فئة صغیرة حاولت وتحاول أن تجعل یوم السبت من العطل الأسبوعیة تمهیدا لتحویل العطلة الأسبوعیة إلى یوم السبت کحل وسط بین الجمعة والأحد"، ولهذا: "لا یجوز تبدیل العطلة الأسبوعیة من یوم الجمعة إلى غیرها بعدما صارت شعاراً للمسلمین". ومن المفارقات: "أن هناک دولا غربیة أخذت تراعی مشاعر المسلمین فأصدرت قرارات مفادها أن للمسلمین الحق فی اعتماد یوم عید الفطر السعید والأضحى المبارک عطلة، وقد بدأ المسلمون رغم تشرذمهم إلى اتخاذ هذین الیومین عطلة، والى السماح باستقطاع وقت صلاة الجمعة من أوقات الدراسة والعمل"، ولهذا: "على المسلمین السعی على أخذ حقوقهم فی عطلهم الرسمیة والتی منها یوم الجمعة ولا أقل من أخذ فرصة لإقامة صلاة الجمعة التی باتت شعاراً إسلامیاً فی الدول غیر الإسلامیة، ولا یخفى أن السعی فی هذا الأمر من القُربات التی یؤجر علیها الساعی".

فی الواقع یمثل (شریعة الجمعة) إضافة جدیدة إلى سلسلة فقه الشریعة، یوالف فیها الفقیه الکرباسی بین متون الفقه ومستجدات الحیاة، وحسب تعبیر الفقیه الغدیری: "ولصلاة الجمعة وکذلک الأعمال التی یعملها المؤمنون فی یوم الجمعة أحکام خاصة ذکرها الفقهاء العظام فی الکتب الفقهیة، وأما سماحة المؤلف آیة الله الشیخ الکرباسی حفظه الله تعالى فقد تفرّد بذکرها بأسلوب جدید وبصیاغة علمیة حدیثة".