دعم الموسوعة:
Menu

غمامة الضاد تسقی التخوم وتعمی الخصوم!

 

لطالما تغنت الأمم بلغاتها لما تحمل من آداب على مستوى عال من الرفعة والرقی، کاللغة العربیة والفارسیة والانکلیزیة والفرنسیة، ولکن اللغة العربیة امتازت عن بقیة لغات الأرض أنها لغة ثقافة وسلوک فضلا عن ما تقدمه من أدب عربی متمیز، فالذی یدرس اللغة الانکلیزیة من غیر الناطقین بها إنما یطلع على أدبها وقواعدها فیتمکن من التحدث بها أو تؤهله لترجمة النصوص من وإلى اللغة الأم، لکن الذی یدرس اللغة العربیة یطلع على مدیات أوسع تفوق دائرة اللغة المجردة، فکل قاعدة لغویة لها استشهاداتها وهی مستلة إما من القرآن أو من السنة أو أقوال الصحابة والتابعین أو من الشعر العربی الجاهلی والإسلامی، وحتى الجاهلی منه ینطوی على حکم وآداب، أی أن الدارس للغة العربیة إنما فی واقع الحال یتنزه فی بساتین الثقافة والأخلاق والسلوکیات والسجایا الطیبة.islam-in-azerbaijan

ولاشک أن التأثیر سیکون أکبر لو أن الدارس للغة العربیة مارس ما تعلمه فی الوسط العربی، حینئذ سیکون على احتکاک مباشر بالعربیة أدبا وآدابا، تعلما وممارسة، ولذلک تحرص الدوائر الدبلوماسیة الغربیة على سبیل المثال إیفاد موظفیها إلى بعض الدول العربیة والسکن فیها، لیس لتعلم اللغة العربیة تجردا، بل الإطلاع على سلوکیات المجتمع وثقافته ومثله، ولیس بخاف على أحد أن بعض الدول الغربیة مثل أمریکا وبریطانیا استوظف مهاجرین عرب فی دورات لتعلم اللغة العربیة لموظفیها ودبلوماسیها، ولاسیما بعد حوادث تفجیرات 11 سبتمبر 2001 م وحرب الخلیج عام 2003 م، واشترط المسؤولون على المهاجرین أو المتجنسین التحدث باللغة المحلیة ولیست العربیة الفصحى والتصرف مع أمثالهم من المدینة الواحدة أو البلد الواحد بسلوکیات تلک المدینة لا بسلوکیات بلد المهجر، لأن الغایة من الدورات التعلیمیة هی الإطلاع على ثقافة وسلوکیات المجتمعات التی ورد منها المهاجر العربی، وبتعبیر آخر أن هذه البلدان هیئت عندها مجتمعات عربیة مصغرة (کانتونات) أدخلت فیها کادرها لیتعلم العربیة لغة وأدبا وثقافة وسلوکا بدلا من أن ترسلهم للتعلم فی دولة عربیة، لإدراکهم أن اللغة العربیة لیست لغة تحدث فحسب. ولهذا فلا یستغرب المرء عندما یُشاهد سفیر هذه الدولة الغربیة أو تلک یتحدث بلغة ولهجة أهل البلد، أو أن المتحدث باسم هذه الدولة الغربیة أو تلک یجید النطق بسلاسة دون تلکؤ.

لغة وثقافة

ومن الطبیعی أن تعلّم اللغة من خلال الاحتکاک المباشر هو الأسرع والأنجع، ولمّا کانت العربیة هی لغة الأدب والآداب والسلوکیات، فإن الإحتکاک بالعرب هو احتکاک مباشر بالثقافة والأخلاق، وقد سبق المسلمون الأوائل الأمم فی إدراک أهمیة التواصل مع المجتمعات الأخرى فی نشر أخلاقیات الإسلام عبر اللغة العربیة، ولهذا فإن المجتمعات غیر العربیة وبمرور الزمن کانت تتقبل اللغة العربیة أدبا وآدابا بسرعة فائقة دون أن یلغی الإسلام لغة القوم الأصلیة، وکان معظم الأدباء غیر العرب یخطون نثرا أو ینشدون نظما باللغة العربیة إلى جانب لغة الأم، بل أن المجتمعات التی دخلها الإسلام کانت تحرص على استیعاب تعالیم الإسلام من خلال تعلم اللغة العربیة، وحسب تعبیر الشیخ لطیف بن عاکف لطیف أف الآذربایجانی المقیم فی دمشق وهو فی إعداده وتعلیقه على کتاب "الإسلام فی آذربایجان" الصادر حدیثا عن بیت العلم للنابهین فی بیروت لمؤلفه المحقق الدکتور محمد صادق الکرباسی فی 64 صفحة من القطع المتوسط، أن الدیانتین الزردشتیة والمسیحیة کانتا سائدتین فی آذربایجان الکبرى.

من هنا حینما دخل الإسلام آذربایجان عام 21 للهجرة على رأی المصنف و18 للهجرة على رأی المعد، أظهر المجتمع رغبته فی الإطلاع على الدین الجدید، وکما یعتقد الأخیر: "رأى رؤساء الدول الإسلامیة من المناسب أن تنتقل بعض العائلات من العرب إلى آذربیجان لیکونوا مع المسلمین الجدد مما جعل الشعب الآذری ومن خلال المسلمین المهاجرین یعایش العقیدة الإسلامیة عملیاً، وحقا کان لهذه السیاسة تأثیر ایجابی لترسیخ الإسلام فی قلوب الشعب الآذری"، فضلا عن حرص قادة الإسلام على نشر العدالة فی البلدان الإسلامیة دون النظر إلى قومیة المجتمع المسلم، ویحتفظ لنا التاریخ بنص للخلیفة الإمام علی بن أبی طالب (ع) یوصی فیه والیه على آذربایجان الأشعث (معدی کرب) بن قیس الکندی المتوفى سنة 42 هـ التقید بالعدالة واحترام حقوق الآذریین بقوله: "وإن عملک لیس لک بطعمة، ولکنه فی عنقک أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقک، لیس لک أن تفتات (تستبد) فی رعیة ولا تخاطر إلا بوثیقة، وفی یدیک مالٌ من مال الله عزَّ وجل، وأنت من خُزّانه حتى تسلِّمه إلیَّ، ولعلِّی أن لا أکون شرَّ وُلاتِک لک والسلام" (نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3/525).

ومن مظاهر هذا التوحد بین الثقافة العربیة الإسلامیة والثقافة الآذریة وبخاصة قبیل ضم آذربایجان إلى الاتحاد السوفیتی السابق هی أسماء الموالید الجدد، وکما یذهب المعد: "إن الإسلام کان جوهرا ومقوما لثقافة الشعب الآذری، وهذا الاندماج کان یتجلى فی جل أبعاد ثقافة هذا الشعب المسلم، فمثلاً: على رغم کونهم من الأتراک قلما تجد شخصا یکون اسمه اسما ترکیاً، بل کانت معظم أسماء الأشخاص أسماءاً عربیة على صلة بالإسلام ولاسیما بأهل البیت علیهم السلام"، هذا فضلا عن النتاج الأدبی للشعب الآذری المندمج بالثقافة العربیة والإسلامیة، وکما یؤکد الشیخ عاکف أف وهو یعلق على ما أورده المحقق الکرباسی من معلومات غنیة عن تاریخ الإسلام فی آذربایجان تعتبر مرشداً للسائح فی تاریخ الشعوب الإسلامیة قدیما وحدیثاً: "کان الأدب الآذری مشحونا بالشعر والنثر المعبر عن مفاهیم الإسلام وسیرة قادته المعصومین علیهم السلام بأسلوب بلاغی راق، بل کان من الشعراء من عرف بشاعر أهل البیت علیهم السلام باختصاصه بهم حیث صرف عمره فی مدح آل الرسول علیهم السلام ورثائهم، وترک مجلدات من الآثار النفیسة، أمثال راجی، قمری، ودلریش".

أجداد وأحفاد

وإذا کان للعربیة اللغة المتوحِّدة مع الإسلام عقیدةً دور متمیز فی آذربایجان وفی طبقات المجتمع الآذری، فإن للآذریین وجودهم المتمیز فی العالم الإسلامی بمدرستیه الفقهیة الشیعیة والسنیة، بید أن وقوعهم على تخوم العالم الإسلامی إلى جانب الإمبراطوریة الروسیة جعلهم عرضة لهجمات الآخرین العسکریة والدینیة، ومحاولات الروس فی العهدین القیصری والشیوعی تذویب ثقافة المجتمع الآذری لیسهل علیهم تطویعه.

ولعلَّ أول المحاولات وأخطرها کما یؤکد المحقق الکرباسی تغییر الحروف العربیة من أبجدیة اللغة الآذریة، بخاصة وإن الآذریة تکتب باللغة الفارسیة ذات الأبجدیة العربیة مع زیادة ثلاثة حروف هی الباء المثلثة والجیم المثلثة والکاف الفارسیة، حیث قام الحکم الشیوعی بتبدیل الحروف الفارسیة والعربیة إلى اللاتینیة سنة 1238 هـ (1920 م) ثم تم تحویلها إلى الخط الروسی (سیریلیک، أو کریلی) سنة 1358 هـ (1939 م).

وهذا ینبئ عن إدراک الآخر لأهمیة لغة الضاد فی شد لحمة المسلمین، وعلیه فإن أیة دعوة لإلغاء اللغة العربیة من قاموس الشعوب هی فی واقعها دعوة للفصل بین المجتمع والدین ودعوة لإبعاد المسلمین عن القیم والمثل التی سطرها القرآن الکریم الذی نزل: "بِلِسَانٍ عَرَبِیٍّ مُبِینٍ" (سورة الشعراء: 195)، فاللغة فی واقعها لیست محلا للتفاخر بقدر ما تحمله من قیم ومثل علیا، فالتفاخر هو فی المثل والسلوکیات لا فی أصل اللغة، فکل لغة محترمة والناطقون بها محترمون، حیة کانت أو میتةً، عالمیةً کانت أو محلیَّةً، مسموعة کانت أو مقروءة، وقد خلق الله الناس متنوعین فی کل شیء، بل إن قیمة الحیاة فی التنوع والتعدد بکل أشکاله من جنس وعرق ولغة، والعبرة فی المؤدى، فمراد القرآن هو الائتلاف لا الاختلاف، والتحالف لا التخالف، والتعارف لا التقارف، کما یعبر القرآن الکریم بقوله تعالى فی الآیة 13 من سورة الحجرات: "یَا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ".

ومن المحاولات الأخرى تغییر العادات والتقالید الإسلامیة فی الأفراح والأتراح، وحتى التقالید الشعبیة لم تکن لتبتعد کثیرا عن التعالیم الإسلامیة، فهم قد تدخلوا فیها لصهر الآذریین فی المجتمع الروسی.

کما عمد الروس إلى إبعاد الناس وبخاصة الشبیبة عن تاریخ الأجداد المتداخل مع الإسلام، وفصلهم عن تراثهم الدینی والشعبی، وکان من شدة البطش کما یؤکد المعد: "ینقل الکبار والشیوخ أنهم خشیة أن یعلم بهم المسؤولون کانوا یصلون على الأموات لیلا بعد أن یدفنونهم نهاراً، وکانوا إذا أرادوا تدریس شیء من علوم الدین کانوا یختارون مکانا خفیاً بعیداً عن أنظار وأسماع رجال السلطة، ومن قلة الکتب الدینیة کان الطلاب ینسخون الکتب الدراسیة من أولها إلى آخرها بأیدیهم".

أرقام مرعبة!

وتحت ذریعة مخالفة الدستور الروسی سیق الکثیر من العلماء إلى النفی والإبعاد القسری والموت، وبخاصة فی عهد الاتحاد السوفیتی، وکما یشیر المعد: "وبما أن آذربیجان کانت ملیئة بالعلماء الأجلاء الدارسین فی العراق وإیران، قامت استخبارات الاتحاد السوفیاتی عام 1937 م بالتجسس على أولئک الأبرار واعتقالهم ونفیهم إلى سیبیریا حتى لم یبق منهم إلا من یعد بالأصابع حیث اتخذوا طریق التقیة للنجاة بأنفسهم والعمل على نشر الإسلام بصورة سریة هادئة ما أمکنتهم الحیلة إلى ذلک"، وکان من نتائج الإضطهاد الدینی کما یؤکد الدکتور الکرباسی: "تدمیر معظم المدارس والمساجد وسائر المراکز الإسلامیة، فقد بلغ عدد المساجد فی آذربایجان فی عام 1336 هـ (1917 م) ألفی مسجد وثمانمائة مدرسة دینیة، وبعد ستین عاما من الحکم الشیوعی لم یبق إلا 16 مسجداً، وأما المدارس فقد هدّمت جمیعها وتضاءل عدد العلماء بالقتل".

وهذه الأرقام تشیر بالمقارنة بین العهدین القیصری والشیوعی أن الثانی کان شدید الوطئ على المجتمع الآذری، لاسیما بعد أن بسط البلاشفة سیطرتهم، على أن زعماء العهدین یدرکان دور العلماء فی تحریک الجماهیر نحو التمسک بحقوقهم ورفض سیطرة الأجنبی، وتحتفظ الذاکرة الروسیة بنضال العالم الربانی السید محمد بن علی الطباطبائی الحائری (1180- 1242 هـ)، الشهیر بالسید محمد المجاهد الکربلائی مولداً ومدفناً، الذی تحرک من العراق عام 1240 هـ (1824 م) متجاوزاً لکل الحدود المصطنعة لقیادة حرکة تحریر آذربایجان من الاحتلال الروسی.

وإذا کان الآذریون قد استقبلوا الأسر العربیة لتعلم العربیة وتعالیم الإسلام، فإن الروس خاضوا التجربة نفسها ولکن على طریق محو الهویة الآذریة، وهو ما یشیر إلیه المصنف، فهم عمدوا خلال سنوات متمادیة إلى تغییر الخارطة السکانیة عبر إسکان القومیة الروسیة وتفضیلها، مع محاولات السیطرة على الثروة الإقتصادیة باعتبار آذربایجان بلداً غنیاً بالنفط والغاز والذهب والفضة والنحاس والحدید والکوبالت والرصاص ومناجم ملح المولیبدینوم وأحجار الملح، وفی المقابل نحروا تحت مقصلة الإشتراکیة القدرة المالیة للأسر الآذریة الغنیة.

فی الواقع لم تستطع کل هذه الإجراءات فی العصر القیصری والعصر الشیوعی الروسی من مسخ هویة المجتمع الآذری بغالبیته المسلمة، ویرى الشیخ عاکف أف أن المجتمع الآذری استطاع المحافظة على وجوده بفضل ولائه للنبی محمد (ص) وأهل بیته (ع): "لأن المؤمنین بعد أن فقدوا علماءهم لم یکن لدیهم طریق لإیصال الدین إلى الجیل الجدید سوى إقامة المراسم والمآتم بمناسبة ذکرى استشهاد سید الشهداء الإمام الحسین علیه السلام، ففی الوقت الذی لم یکن یعقد أی مجلس دینی، کانت المجالس العاشورائیة وسیلة لإعطاء المعلومات الدینیة وإن کانت بسیطة"، وهو نوع من استشعار المظلومیة والتحسس بها عبر التواصل مع النهضة الحسینیة للحفاظ على الهویة الإسلامیة فی محیط غیر إسلامی یحاول إبتلاع خیرات البلاد وتدجین إرادة العباد.