دعم الموسوعة:
Menu

المدخل الى الشعر الحسيني الجزء الأول:


تاريخ الأدب العربي بعيون حسينية


يمثل الكلام الجميل صك المحبة الى القلب يدخله دون حاجب او استئذان، وإذا انتظمت الكلمات وسالت موسيقاها ألحانا في أخاديد أذن السامع، متسربة الى حقول نفسه ومشاتل عاطفته، أسَرته وأفقدته صولجانه ودفعته عن عرش جلموده مهما أوتى من قوة العقل وصلادة النفس، وهذا ما يفعله الشعر المجيد، يغرق مستمعه في بحوره بمرساة أوزانه، ليطلعه وهو يغوص بين أمواج الشعر وسحره على اللئالئ والدرر المنظومة.
وما أجمل الشعر حينما ينسج الشاعر خيوطه الحريرية في حب شخصية ملَكَ المكارم كلها، وينشئ عقدها في تعظيم رمز حاز الفضائل جميعها، وهب الإله كل ما يملك، فوهبه الرحمن حب الناس، تأسرهم العَبرة فينيخوا ركابهم عند رحله، يميرون أنفسهم ويزدادون كَيل عِِبر، إنها شخصية سبط الرسول الأكرم محمد (ص) قتيل العبرة وشهيد الحق الامام الحسين بن علي (ع).
البحاثة الدكتور محمد صادق الكرباسي، يسلك بنا هذه المرة في الموسوعة الحسينية التي تنوء أبوابها بالعصبة أولي القلم، سبل التحقيق الى بساتين "الحسين في الشعر العربي القريض"، من خلال "المدخل الى الشعر الحسيني" في جزئه الأول الصادر عن المركز الحسيني للدراسات في لندن، في 560 صفحة من القطع الوزيري، حيث تناول فيه كل صغيرة وكبيرة لها علاقة بالأدب الشعري، فهو قبل أن يأخذنا في رحلة معرفية ويطلعنا على مراحل الشعر الحسيني كمقدمة ضرورية للدخول فيما نظم في الامام الحسين (ع) من الشعر القريض، يتوقف عند محطات عدة، لبيان الشعر وتاريخه وخصائص مفرداته.

الأدب وحقيقته
ولما كان هذا الجزء والذي يليه هو مدخل الى الدواوين الشعرية لخمسة عشر قرنا، فان المصنف يبحث في الشعر ومنهاجيته ويستعرض الموضوعات اللصيقة بدائرة الشعر، فأول ما يبدأ به هو شرح معنى كلمة (الديوان) وأصلها، فقد قالوا فيها أنها فارسية أو آشورية أو آكدية أو سومرية أو عربية، ويخلص الى أن الكلمة غير دخيلة يمكن إرجاعها الى أصول عربية، ولكن لا ينافي أن تكون لها في اللغات الأخرى معان قريبة من ذلك، ولا يستبعد: "أن تكون عربية الأصل دخيلة على اللغات الأخرى ولكنها دخيلة الاستخدام في العربية للمؤسسات والدوائر الرسمية".
وتحت عنوان (تعريف الأدب)، يفصل القول في المعنى اللغوي والاصطلاحي. كما إن (الأديب) تسمية تطلق على من يجيد التعبير نثرا او شعرا، ومن يتصف بالفضيلة فهو مؤدب. أما (ولادة الأدب) فان: "البذرة الأولى للأدب هي التجربة الشعورية التي تتولد في مخيلة الأديب نتيجة لتلاقح مؤثرات خارجية مخزونة او حاضرة"، والأديب ليس فكراً مجردا بل عمل وتطبيق على ارض الواقع. لأن (قيمة الشعور الأدبي) تعادل القيمة الوجودية. كما إن (قيمة الاختيار الأدبي) تتحقق في جمع الحروف والكلمات والجمل والفقرات في منظومة موزونة ومنمقة، لأن الجزئيات هي التي تشكل الكليات، والكليات تأخذ خصائصها من كينونة الأجزاء، فمتى ما أحسن استخدام المفردة صار الكلام جميلا، وفي الشعر لابد عند تنسيق جزئيات الكلام مراعاة التنسيق بين الغرض الشعري والبحر وأوزانه والقافية بحركاتها وحروفها، فجودة الشعر ملزومة بتناسقية ثلاثي الغرض والبحر والقافية. ذلك إن (القيمة التعبيرية) تعتمد على تحول الشحنة الذهنية الى ارض الواقع بالأسلوب الشعوري.
ولكن ما هي (حقيقة الأدب)، هل هو فن أم علم؟ وهل هو عمل أم مجرد فكر؟ وهل هو هدف أم وسيلة؟
يرى المصنف أن: "الأدب بما انه يبحث عن أساليب التعبير وفنون الأداء بغرض تحسين صورة الفكرة فهو فن، ومن المجاز إضافة العلم الى الأدب" ويرى أن الأدب عمل والأديب يستحق هذا الوصف: "اذا مارس الأداء الفني في التعبير"، كما إن الأدب وسيلة لإيصال فكرة معينة، وحكمه حكم المقبلات في مائدة الكلام، فعليه: "إن شئت سميت الأدب بالمقبلات اللفظية". ثم إن (منابع الأدب ومجاله) كامنة في مخيلة الانسان تترجمها التجربة الشعورية. والأدب النابض بالحياة هو (الأدب الموجه) الذي لا يتخذه المرء مطية لشهواته ونزواته. لكون (هدف الأدب والشعر) هو تقديم رسالة مسؤولة الى المجتمع عبر الكلام الخميل والنظم الجميل. بيد أن الترابط بين (الأدب والإلتزام) لا يدعونا الى التحجر، لان مسألة الإلتزام في الأدب والشعر التي شاعت في خمسينات القرن العشرين، كانت قائمة على فكرة الإلتزام لحشد الطاقات الأدبية والفكرية لخدمة قضايا الأمة. وأعلى درجات (قمة الأدب) عندما تكون القطعة النثرية او الشعرية في تناسبها التكعيبي (التركيب والموضوع والتعبير) في منتهاها. لأنه عند (التقسيم الأدبي) فان: "الأديب يحلق بجناحين: جناح الشعر وجناح النثر والقاسم المشترك بينهما هو حسن الأداء للصورة التجريبية سواء الواقعية منها او الخيالية".

مرتبة النثر والشعر
وتحت عنوان (أدب النثر وفنونه) يفصل المحقق الكرباسي القول في تقسيماته، وبخاصة: القصة، التمثيل، المقالة، الخطابة، النقد، المكاتبة، المناظرة، المثل، والمقامة. ويفرد عنوانا للحديث عن (أدب القرآن) وبلاغته التي انبهر بها فطاحل الأدب الجاهلي. ويستقل بعنوان لبيان العلاقة بين (الأدب والشعر) وموقع الشعر الحر من النثر والشعر القريض. منطلقا من ذلك لبيان (مرتبة الشعر) في سلّم الأدب وتعريفه، حيث توصل الى إن: "الأدب الشعري يأتي في المرحلة الثانية من الأدب النثري من حيث التأريخ لأن الشعر في الحقيقة تطوير للنثر وفيه التزام أكثر من النثر، ولكن من جهة أخرى فإن الشعر يأتي في الدرجة الأولى من حيث الفن الأدبي"، ولابد لمن يريد نظم الشعر ويرتقي أعواده أن يقرأ كما يقول الخوارزمي: حوليات زهير واعتذارات النابغة وحماسيات عنترة وأهاجي الحطيئة وهاشميات الكميت ونقائض جرير وخمريات أبي نؤاس وتشبيهات ابن المعتز وزهريات أبي العتاهية ومراثي أبي تمام ومدائح البحتري وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم وحكم المتنبي وغزليات ابن الفارض. وقد عمد المصنف الى بيان المقصود من كلام الخوارزمي بمتابعة كل شاعر وما اتصف به شعره. ولا يخفى أن بين (النظم والشعر) عموم وخصوص من وجه: "وذلك لأن كل شعر نظم وليس العكس حيث إن الشعر هو ما حرك الشعور الإنساني بل مطلق الشعور مع مراعاة الوزن والقافية". فالشعر الحسن وليد المعنى الجيد واللفظ الجيد، ولذلك فان الشعر المنتوج يقع مدار (الشعر بين العفوية والتكلف) حيث: "إن الشعر العفوي بريق شحنة فكرة تتولد بشكل عفوي وطبيعي .. بينما الشعر المصطنع عبارة عن إفراغ ما احتوته القوالب العروضية حين يريد صانعه استخدامه". وهذا يقودنا الى معرفة مدار (الشاعر بين القريحة والعروض) حيث: "لا يستغني الشاعر المبدع عن القريحة الخلاقة ولا عن العروض الخليلية" لكون الأولى بمثابة الوقود تسوق مركب الكلمات والمعاني على طريق العروض الممهد الى قمة العطاء الأدبي. على إن القول بان الشعر (أعذبه أكذبه) فيه استغراق غير مبرر، لأن: "شاعر العفوية لا يمكن أن يقول الكذب لأن الطبيعة غير كاذبة، والكذب لا يأتي إلا من التصنع فهو الى النظم أقرب منه الى الشعر، فالشعر أبلغه أعذبه وأخيله أصوبه، وأما المبالغة فهي ضرب من ضروب الأدب". ومن يتكلف الشعر او تقصر همته يسهل عليه (سرقة الشعر) الغالي والنفيس، وتتمحور السرقات كما يضيف المصنف حول: سرقة الفكرة أو الألفاظ أو القالب الشعري أو الانتحال، والأخيرة تعتبر أخس السرقات الأدبية، وفيه حرمة شرعية، على أن التضمين والتشطير يعدان من الفن لا من السرقة. وفي مقام (الرخص الشعرية) اشتهر القول انه يجوز في الشعر ما لا يجوز في غيره، ويعلق عليه المصنف ويرى هناك فرقا بين الرخص المعيبة والرخص الفنية من قبيل التقدير والحذف واستخدام الخاص بمعنى العام وبالعكس. ولا يرى مانعا من (الانفتاح الأدبي) المسؤول على الآداب العالمية.

تاريخ الشعر وتطوره
وقبل الدخول في صلب الشعر الحسيني وتاريخه، يأخذنا المحقق في جولة للإطلاع على (تاريخ الشعر وتطوره) واضعا في حسبانه ثلاثة عصور: الجاهلي والإسلامي والحسيني، فالعصر الأول ينتهي حتى عام البعثة النبوية في 13 قبل الهجرة، وكان: "يصب في غالبه على الفخر والمدح والهجاء والفروسية والشجاعة والغزل الى غيرها من المعاني المتسمة بهذه الصفات"، وينتهي العصر الاسلامي باستشهاد الامام الحسين (ع) في بداية العام 61 هجرية، ولوحظ في هذا العصر: "ان الإسلاميين استعملوا مفردات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة في إنشائهم مما ألبسوه وشاحا عقائديا وأعطوه طابعا علميا فدخلت فيه الفلسفة والعلوم الأخرى"، ويرد المصنف على اولئك الذين قالوا بوقوف النبي (ص) في وجه حركة الشعر بل يرى أن تشجيعه (ص) للشعراء مثل كعب بن زهير وحسان بن ثابت دليل تأييده فضلا عن ما اشتهر عن بعض أئمة المسلمين قولهم الشعر مثل الامام علي (ع).
وتستمر مرحلة الشعر الحسيني حتى يومنا هذا، لكنها مرت هي الأخرى بثلاث مراحل: الأولى: وتنتهي بغيبة الامام المهدي (ع) عام 326 هجرية, والثانية حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجري، والأخيرة منذ القرن الرابع عشر الهجري وحتى يومنا هذا. وضمت المرحلة الأولى دورين: الأول حتى نهاية العصر الأموي العام 132 هجرية، وقد بدأ الشعر الحسيني في معظمه بالرجز السياسي واتسعت رقعته الى باقي البحور، أما الدور الثاني فيبدأ من العصر العباسي وينتهي بغيبة الامام المهدي المنتظر (ع)، وفي هذه الفترة تعرض الأديب الحسيني لمحنة كبيرة نتيجة لممارسة بني العباس القمعية، لكن الأدب الحسيني ظل نابضا ومتحركا مع حركة الزمان والتطور وذلك: لوجود أئمة أهل البيت وحثهم للشعراء على الإنشاء والإنشاد، وقيام العلويين بالثورات والانتفاضات، وبروز بعض الدول والحكومات الموالية لأهل البيت، وبشكل عام كان التفوق من نصيب الأديب الشيعي حتى قال الأديب الأندلسي ابن هاني: "وهل رأيت أديبا غير شيعي".

الأدب في العصر العباسي
وتستغرق (المرحلة الثانية) حدود عشرة قرون هجرية، ما تبقى من عصر الدولة العباسية حتى سقوطها على يد التتار في العام 656 هجرية ثم سيطرة العثمانيين على البلاد العربية عام 923 هـ، وما بعده. وقد مر الأدب العربي بشكل عام في الدولة العباسية بعصرين: أولا (العصر الذهبي) ثم (عصر الانحطاط)، وفي العصر الأول شهد العالم الاسلامي نشوء حواضر علمية أرفدت الأدب بصورة رئيسة، مثل الحاضرة العلمية في دولة الأدارسة في المغرب العربي والحاضرة العلمية في حلب على عهد الحمدانيين، وحاضرة طرابلس الشرق في عهد الدولة العمارية، وحاضرة القاهرة في عهد الدولة الفاطمية، والحاضرة العلمية في كربلاء على عهد البويهيين والحاضرة العلمية في النجف الأشرف على عهد الشيخ الطوسي والمدرسة النظامية في بغداد على عهد النظام السلجوقي, وقد ترك التبادل المعرفي بين المسلمين من عرب وعجم تأثيره على مسار الأدب، فضلا عن إن بغداد وحلب وأصفهان والقاهرة وطرابلس كانت تعج بالمترجمين، على إن من خصائص هذا العصر: "الإسراف في الصناعة اللفظية، خاصة التزام السجع وكثرة التضمين للأشعار والأمثال والآيات والأحاديث واستخدام التشابه والاستعارات ..".
أما (عصر الانحطاط) فانه يبدأ عند منتصف القرن الخامس الهجري مع سيطرة السلاجقة على أمور الدولة العباسية في بغداد وخروج دويلات عن دائرة الحكم العباسي ونشوب الحروب الصليبية، ففي هذا العصر أصبح العنصر العربي غريبا في وطنه، وتغرب معه الأدب، كما إن بعض الدويلات كانت قائمة قبل الدولة العباسية واستمرت في وجودها، وبعضها تولدت في العصر العباسي وهي بالعشرات، كما أنهكت الحروب الصليبية كاهل الدولة العباسية، فضلا عن شخصيات مثل يوسف التكريتي الشهير بصلاح الدين الأيوبي، كما يذهب المحقق الكرباسي تآمرت مع الدولة البيزنطينية وساهمت في تقويض أركان الدولة الاسلامية والسماح للصليبيين باحتلال المدن الاسلامية مثل القدس. في مثل هذه الظروف يساعدها الصراعات الطائفية، برز شعر التصوف والعقيدة والتمذهب، كما ظهر شعر الفلسفة أيضا وبالأخص في أروقة الفاطميين، كما: "إن التشرذم والتقلب أثّر بشكل فاعل في تراجع الشعر الحسيني كغيره، كما إن الصراع الطائفي والنزاع على الملك كان له الأثر في نوعية الشعر الحسيني".

الأدب في العصر العثماني
ويتابع المصنف في (العهد العثماني) حركة الأدب بعامة والشعر بخاصة والشعر الحسيني على وجه الخصوص، حيث قسم العهد العثماني الذي ينتهي بانتهاء الدولة العثمانية في العام 1342 هـ (1924م) الى أربعة عصور، يبدأ بالعصر المغولي وينتهي بعصر التدهور وبينهما عصر الفتوحات وعصر الاستقرار، ويعتبر العصر المغولي هي الحلقة بين سقوط الحكم العباسي وقيام الحكم العثماني، ويشير الى الفساد الذي استشرى في قصر المستعصم بالله العباسي وعدم استماعه الى صوت العقل ونصائح العقلاء من وزرائه من قبيل الوزير محمد بن العلقمي لتجنيب سقوط بغداد بيد المغول الذين راحوا يحتلون المدن الاسلامية كالسيل العرم، وبشكل عام: "وفي هذه الفترة العصيبة لم يكن للحركة الأدبية مرتع يناسبها فقد ضعفت مباني الشعر وتراكبيه واتجه من كان بمقدوره نظم الشعر في ظل هذه الظروف الى تناول المعاني المتداولة وبرز العنصر الديني في الأدب والشعر معا".
وفي العصر العثماني الذي ابتدأ من إنشاء الدولة العثمانية عام 680 هجرية، انفتحت شهية الحكام على الفتوحات والحروب، وفي المقابل انعقد لسان: "الأدب العربي في ظل هذه الحروب والانتهاكات والاحتلالات وتعاقب الحكومات من شتى اللغات والقوميات غير العربية والتي على أثرها دخل اللحن في اللغة والتسيب في آدابها وظهر الشعر الملمع بالتركية والفارسية والهندية وغيرها، واستخدمت الكلمات الدخيلة وراجت اللهجات الدارجة"، أما الشعر الحسيني فانه لم يشذ عن مسار الشعر العام الذي نظم في هذه الفترة، ولما كان محوره الامام الحسين فلابد أن يكون النظم على الولاء والعقيدة، إذ إن: "الحسين كان وسيبقى المادة الخصبة للشعراء والنقطة الروحية الناطقة لتجميع الأمة يلجأ اليها الانسان في مثل تلك الظروف الحالكة ليتقرب الى الله ويشكو همه".
وبعد أن استولى العثمانيون على جل البلاد العربية حل (عصر الاستقرار) فاستتب الأمن وافترشت لهم وسادة الحكم، وحاولوا جاهدين تحميل ثقافتهم التركية على المسلمين مع التزامهم بالثقافة الاسلامية بشكل عام. وقد اتسم (الحكم العثماني الأول) كما يرى المحقق، بالاستبداد، والطائفية، والقومية، وبروز التصوف، والعنف، وهذه أثرت على النتاج الأدبي النثري والشعري، حيث اكتسب الأدب في عصر الاستقرار الكثير من سمات هذه الظواهر، حيث: "تمكن الضعف في النفوس وفسدت ملكة اللسان وجمدت القرائح فلا نبغ شاعر مشهور خارج البلاد العربية، لان البيئة الأدبية قد انكمشت انكماشا ملموسا فانحصرت في مصر والشام وحدهما"، وأفضل من يصف حالة الأدب في ذلك العصر هو البكاشكيري (ت 992) صاحب العقد المنظوم في أفاضل الروم، حيث يقول: "قد انتهيت الى زمان يرون الأدب عيباً ويعدون التضلع في الفنون ذنبا والى الله الحنان المشتكى من هذا الزمان"، على انه برز في هذا العصر كما يقول البحاثة الكرباسي: "شعر التصوف والمدائح النبوية بشكل عام وخفت الأغراض الشعرية الأخرى كالغزل والفخر والحماسة والمدح وما شابه ذلك ومعه خف المستوى الأدبي والإبداعي في الشعر، كما برز شعراء مخضرمون ينظمون بالعربية وبالفارسية أو بالتركية والعربية".
وبموت السلطان سليمان الثاني (ت 1102هـ) حكم الدولة العثمانية سبعة عشر سلطانا حتى انقراضهم، وهذه الفترة يصفها المؤلف بأنها فترة (عصر التدهور) حيث نشبت الحروب على أطراف الدولة العثمانية نتج عنها استقطاع المدن وضمها الى هذه الدولة او تلك، أو الاستقلال بنفسها، وبالتبع نال الأدب النثري والشعري ما نال الواقع السياسي العام، وهكذا: "ضعف الشعر في هذا العصر وأصبح ركيك الأسلوب، سخيف المعاني، كثير الأغلاط، ضعيف الأغراض"، ولكن في المقابل حيث لا يرتبط الشعر الحسيني بالبلاط فانه استطاع أن يقفز على الضعف الذي أصاب الشعر، ولهذا فان: "المجموعة الشعرية التي حصلنا عليها عن هذه الفترة والتي تطابق تاريخيا القرنين الثاني عشر والثالث عشر، والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري تزايدت باضطراد"، فان: "عددهم في هذه الفترة تجاوز 330 شاعرا، القرن الثاني عشر نحو ستين شاعرا، القرن الثالث عشر نحو 130 شاعرا، القرن الرابع عشر حتى عام 1342 هـ نحو 130 شاعرا، والعيون منهم نحو خمسين شخصية".

الأدب في العصر الحديث
أما (المرحلة الثالثة) من مراحل الشعر الحسيني، فان البلدان العربية والإسلامية شهدت احتلالا من قبل هذا الاستعمار واستقلالا عن ذاك، ولا يخفى: "إن الاستقلال لم يأت عن فراغ ولا عن إرادة دولية أو غربية، بل اثر نهوض الشعوب الاسلامية بوجه الاستعمار وتقديم التضحيات الجسام من قبل الأشراف وبقيادات شريفة كالشيخ محمد تقي الشيرازي في العراق، وعمر المختار في ليبيا، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، واحمد عرابي في مصر، وإبراهيم هنانو في سوريا، ومحمد احمد المهدي في السودان، ومحمد المهدي في الصومال، وشرف الدين في لبنان، وأمثالهم في أقطار أخرى". ولابد أن يصطبغ عموم الأدب بملامح (العصر الحديث)، فعلى صعيد اللغة خرجت الأمة من هيمنة اللغة التركية، ولكن الاستعمار حاول فرض لغته كما في شمال أفريقيا، وعلى صعيد الجانب السياسي: "تأثر العالم الاسلامي بالسياسة الغربية وذلك بفضل الحكام الذين وصلوا الى الحكم في البداية على أكتاف الغربيين إن بشكل مباشر أو غير مباشر"، وتأثر الأدب بهذه التحولات، وساعد (الأدب والأدباء في هذه المرحلة) ظهور: الصحافة والمدارس والإذاعة والطباعة والترجمة والمواصلات والاتصالات والاستقلال والمكتبات والهجرة والمجامع العلمية والجامعات، وقد ازداد الشعراء في هذا العصر، لكنه شهد من جانب آخر (صراع اللهجتين) بين الفصحى والدارجة.
وقبل أن يلج المصنف صلب موضوع الشعر وأغراضه وبحوره وأوزانه، يرى أن التطلع الى (المستقبل) يستدعي: أن يتحول الأدب الى أدب تخصص في أغراضه، وان يبتعد عن التسيس فيكون طوع الحاكم، وان يكرم الشاعر أيام حياته وعطائه، وان يتم إنشاء مجمعات وندوات أدبية، وان يصار الى إعادة المباراة الشعرية، وان يتم الالتقاء بالحضارات الأخرى عبر عقد الندوات، وان يتم دراسة الشعر والأدب من قبل أخصائيين معترف بهم، وان يصار الى تقييم النتاج الأدبي والشعري بين فترة وأخرى، وان تتوجه الأنظار للاعتناء بالمواهب الفنية وصقلها، وان يوجه الأدب لصالح المجتمع.

بحور تنفتح على أخرى
ويوضح المصنف ضمن (معيار النظم) مصطلحات العروض والوزن والبحر، فالأول يبحث أوزان الشعر والبحور ومتعلقاتهما، والثاني يتناول المقاييس الإيقاعية، والثالث يبحث نوعية الوزن والإيقاع، فنوعية التفعيلات التي تشكل الإيقاع الجميل هو البحر. ويعترض المصنف ضمن بحث (عروض الخليل بين الأصالة والتحديث) على اولئك الذين يحاولون عبثا نسبة ما اكتشفه الخليل بن احمد الفراهيدي من بحور الى غيره. ثم يتناول (البحور) بشيء من التفصيل، وبخاصة التي توصل اليها الخليل وهي خمسة عشر بحراً: الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتث، والمتقارب. وزاد الأخفش بحر المتدارك، وزاد أبو العتاهية بحر المِدَق، وزادوا بمرور الأيام بحور: المستطيل، الممتد، المتئد، المنسرد، المُطرد، المتوافر، الدوبيت، السلسلة، المبسوط، المستدق، المستدرك، المستقرب، القريب، المشترك، الموجز، المستكمل، المستزاد، المتوفر، المخفف، المركب، والمتسرح. ويلحق بهذه البحور عشرون أخرى، فضلا عن (المربوع) في 22 نوعا، وبشكل عام لا يمكن قصر البحور على عدد معين، ذلك: "إن اختراع البحور ليس حكرا على احد وإنما تابع للقواعد والمعايير، فأينما وجد الإيقاع وتوفرت الشروط فلا يمكن رفضه" ولهذا أوجد الدكتور الكرباسي أوزانا جديدة أدرجها في كتابه "الأوزان الشعرية"، وواصل في هذا التوجه حتى وضع كتابه هندسة العروض ليوصلها الى 208 بحور بغض النظر عن مولداتها.
ويعتقد: "إن البحر من جهة والوزن من جهة أخرى تابعان لموسيقى الكلام ووقعه لدى السامع ويتدخل فيه الذوق ولا يمكن حصره بما وضع له"، ولذلك لا يعترض على (التجاوزات المجازة)، بلحاظ انه: "كلما لم يستهجنه الذوق السليم فهو موزون" أيده فيما توصل اليه الأديب واللغوي العراقي الراحل الدكتور ابراهيم السامرائي في قصيدتين بعث بهما للمؤلف.

أصل الشعر: الرجز أم الحداء؟
ويحدثنا المصنف عن (الرجز)، ولا يؤيد قول البعض انه ليس من الشعر، وقد: "سمي بحمار الشعراء او حمار الشعر لسهولة النظم على زنته او لسهولة التلاعب مع تفعيلاته ورويه"، بل يؤيد ما ذهب اليه البعض بان اصل الشعر بدأ بالرجز، فيكون تاريخه من تاريخ الشعر، على إن البعض يرى أن الحداء، وهو سوق الإبل والغناء لها، هو أساس الشعر عند العرب ثم تطور الى سائر ألوان الرجز ومن ثم الى غيره من الأوزان والبحور، ربما يؤيده في ذلك قوله النبي محمد (ص): "لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين". ومن الرجز (الأرجوزة) حيث يلتزم الشاعر بالقافية الموحدة في كل من الصدر والعجز دون غيرهما. وفي مقابل الرجز ظهر (القصيد) حيث كان أول تطوره أن قاموا بتطويل شعر الرجز فنتج عن ذلك القصيد. واشتهر الرجز بوصفه (شعر الحرب).

الشعر الحر وأمور أخرى
ويفرد المصنف عنوانا مستقلا للحديث عن وزن (الدوبيت) وتتبع أصل الكلمة وتاريخها وتفاصيلها، و(نشأة الدوبيت)، والعلاقة بين (الأدب العربي والدوبيت)، وحجم (وقع الدوبيت) و(تركيبة الدوبيت)، ومناقشة (أقوال شاذة في وزن الدوبيت)، وملاحظة (أنواع الدوبيت وتطوره). وبشكل عام فان الدوبيت كلمة فارسية مركبة من "دو+بيت" وتعني البيتين: "وفي الحقيقة انه كالمربع في كونه يحتوي على أربعة أشطر ولكن يخالفه في الوزن ويتفق معه في اتحاد قافية الشطر الأول والثاني والرابع" ولعل الشاعر الإيراني "رودكي" أول من نظم على وزنه، بيد أن: "أدباء العرب وشعراءهم تفننوا في القالب الشعري من الدوبيت وطوروه حتى أصبح له أنواع مختلفة"، أما في الأدب الحسيني فان الدوبيت دخله منذ القرن السادس الهجري او قبله بقليل.
ويفرد البحاثة الكرباسي عنوانا خاصا يتناول (الشعر الحر) بوصفه حالة وسطى بين النثر المقفى والشعر الموزون، وان كان البعض يرى أن الشعر الحر في عائلة الأدب كالخنثى، لا هو من جنس النثر ولا من جنس الشعر، حيث ضاع قائله بين المشيتين! وعند المصنف أن المختار من الشعر الحر: "المتحرر من القافية فقط دون الوزن تناسبا مع وضع الشعر وما حملته الكلمة من معنى حيث إن موسيقى الكلمات المعبّرة هي التي تهزّ مشاعر الانسان"، مشيرا الى قصائد نازك صادق الملائكة وبدر شاكر السيّاب بوصفهما ممن حرك في قصائده من الشعر الحر مشاعر الانسان.
والعنوان الأخير من عناوين الجزء الأول من كتاب المدخل الى الشعر الحسيني، اختص بوزن (البند) او القفل او العقدة او الفقرة او القسم، فهذه أسماء عربية لأصل الكلمة الفارسية بفتح الباء وسكون النون، وحاصل البحث: "إن البند نوع من أنواع الشعر كان معروفا قديما وهو يشبه ما يسمى بالشعر الحر في زماننا".
ولا يتنازل المصنف عن حق القارئ في أن يعرف كل ما تضمنه الكتاب فترك له فهارس غنية بالمعلومات، يتابع من خلالها: الآيات المباركة، الأحاديث والأخبار، الأمثال والحكم، الأعلام والشخصيات، القبائل والإنسان والجماعات، الطوائف والملل، الأشعار، التأريخ، اللغة، مصطلحات الشريعة، المصطلحات العلمية والفنية، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحيوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، مؤلفو المراجع.
ولا يتنازل المصنف أيضا عن حق الآخرين في النقد أو بيان وجهة نظرهم او فكرة جديدة يقدمها علم من الأعلام من جنسيات وأديان ومذاهب مختلفة، ولذلك فإننا في هذا الجزء نقرأ وجهة نظر المفكر اللبناني المسيحي انطوان بارا الذي يبدأ قراءته لهذا الكتاب بالتأكيد انه: "لو قلنا أن الإسلام بدؤه محمدي واستمراره حسيني، فلن نكون مجافين لحقيقة تجلت في شواهد دينية وتاريخية" فقد "كانت كربلاء بارهاصاتها الروحية أنشودة وضعها الحسين على الشفاء فما ملّتها قط، استوطنت حناجر الأجيال، تطرب لها العقول وتحنو عليها الأضلع والصدور كدرّة ثمينة، فتلهب المشاعر وتهز القرائح لها اهتزاز الصبّ المستهام فتخلدها كلماً وشعراً الى جانب ما خلده التاريخ منها سرداً وتحليلاً"، وعبّر عن سعادته لصدور الموسوعة الحسينية ومتابعتها للنهضة الحسينية: "لأنه عمل فكري لا يجارى". وبوصفه أديبا رأى أنطوان بارا أن ما أتى به المحقق الكرباسي في هذا الجزء وما سيليه من أجزاء هو كنز عظيم لان: "المكتبة العربية تفتقر الى كتاب يجمع بين دفتيه ما نظم من أشعار عن ملحمة كربلاء التي شكّلت على مر التاريخ إلهاما للشعراء وذوي النفوس الشفيفة".
وأجد أن هذا الجزء بما فيه من مادة أدبية ومعرفية دسمة لا يستغني عنه أي طالب أدب من نثر او شعر، فهو ينقل أقدامه الى الجادة الصحيحة التي ينبغي أن يسلكها للوصول الى مصفًى العمل الأدبي وزلال الأدب الموجه.