دعم الموسوعة:
Menu

برسم الإفراط والتفریط أعیاد مع وقف التنفیذ!

 

یقع مستقبل البشریة على خط استواء الحیاة یصعد شمالا نحو قطب الرجاء وینزل جنوبا نحو قطب الخوف، وبین هذین الخطین تتقلب حیاة المرء بین مواسم الأمل والألم، وفصول الفرح والترح، یعمل ویتقاعد، یجهد ویستریح، یقعد وینام، یجد ویلعب، فهو فی دائرة کهربیة متواصلة تظهر فعالیتها من اجتماع السالب والموجب، فالمصباح لا یسمى مصباحا ما لم یتفاعل الخطان المتضادان، والحیاة لا تسمى حیاة ما لم تتفاعل الأضداد، فالمرء لا یأنس بدفء الحرارة ما لم تعض البرودة جسده، ولا یعرف السعادة ما لم یتذوق مرارة الحیاة، فالسعادة عملیة نفسیة تراکمیة تنقل الإنسان إلى ظرف جدید یتحسس فیه التغییر، وقد تتوسع حجم السعادة لتشمل الدوائر القریبة من أهل وعشیرة وتتسع أکثر لتشمل المجتمع.

وأفضل السعادات وأرقاها اجتماعیا تلک التی تتسع مداها لتضم أوسع الناس، ولذلک تبانت المجتمعات والعقائد والأدیان على توفیر فرص زمنیة أو مکانیة أو کلیهما معاً للسعادة الجماعیة التی تخرج الأمة من رتابة الحیاة وکدها ونصبها إلى بحبوحة من العیش الهنیء ولو لفترة، تستعید معها الأمة نشاطها وحیویتها، ولذلک کانت الأعیاد الدینیة والقومیة والوطنیة فرصة طیبة للشعور بالفرح والحبور وبخاصة لأولئک الذین صرفتهم متاعب الحیاة ومشاغلها عن تلمس راحة الحیاة وکرمها وفیضها، فیسعد الجمیع کبیرهم وصغیرهم، غنیهم وفقیرهم، راعیهم ورعیهم.

فالعید مناسبة طیبة لتنشیط دورة الحیاة وتفعیلها، فظاهرها الإستراحة والدعة، وحتى فی تعبها راحة، فالتنقل والسفر وصرف الأموال لزیارة الأهل والأقرباء والأصدقاء یعتبر من الناحیة الإقتصادیة هدرا للمال والزمن، ولکن فی العرف الإجتماعی تمثل هذه الحرکة شدّا من لحمة المجتمع وتجدیدا للدماء فی شرایینه، وتحریکا للمیاه الإجتماعیة الراکدة، فإسعاد الأب لأسرته راحة، وإدخال الفرح فی بیوت الأرامل والثکالى والأیتام سعادة ما بعدها سعادة، وإکرام الضیف سعادة، وإغناء الفقیر سعادة، وإنارة الأزقة فیه إدخال للبهجة فی قلوب الأطفال وعموم الناس، فکل فعل منضبط على طریق إنعاش النفوس وبخاصة فی المناسبات والأعیاد هو أداء راق، یوافقه الشرع ویرضاه العرف ویتقبله المجتمع.

سعادة لا تعاسة

ولکن هل یقف الشرع الإسلامی أمام الأعیاد والإحتفال بها؟

مثل هذا السؤال الذی یتقلقل فی صدور البعض، یجیب علیه الفقیه آیة الله الدکتور الشیخ محمد صادق بن محمد الکرباسی فی تصنیفه الفقهی الجدید "شریعة العید" المنضود فقراته من 159 مسألة شرعیة، الصادر حدیثا عن بیت العلم للنابهین ببیروت فی 88 صفحة من القطع الصغیر، بتقدیم و113 تعلیقا لقاضی الشرع الفقیه آیة الله الشیخ حسن رضا الغدیری.

فالأعیاد دینیة کانت أو وطنیة، جمعیة أو فردیة تعلوها غمامة الحبور، لأن الحیاة هی إحیاء للنفوس المتعبة وإحیاء للموات من الإرادات المعطلة، وإماتة للأعراف التی تنسجها عناکب التعاسة، وبخاصة فی المنظور الإسلامی الذی یرى أن العمل الصالح عید وإصلاح الفاسد من أمور الناس عید، ودفع الضرر عن المجتمع عید، ودحر جحافل الهموم وتشتیت غمومها عید، والحاکم الصالح عید، والقاضی العادل عید، والموظف العامل الأمین عید، والجمعیات الخیریة الفاعلة عید، ومؤسسات المجتمع المدنی الناشطة عید، فکل صغیرة أو کبیرة تصب لصالح الفرد والمجتمع بما لا یخالف الشرع والعرف هو عید سعید، لأن زرع طریق الناس بورود المحبة والخیر سعادة، ودس أشواک الکآبة تحت مدعى العبادة تعاسة، ویبدی الفقیه الکرباسی أسفه الشدید: "أن تکون هناک شریحة من الناس تعتنی بالذکریات الحزینة ولا تهتم بالذکریات البهیجة، وقد أشاعت الحزن بین الناس وسلبت البهجة من قلوبهم حتى آل الأمر أن شبابنا ابتعدوا عن الدین وترکوا الحضور إلى المجالس الدینیة حیث وجدوها کلها مواسم حزن وبکاء، مخالفین بذلک نص الأحادیث الشریفة التی وردت فی إحیاء هذه الذکریات المبارکة والشریفة".

ومن یکن شغله الشاغل نشر الغم ولا ینزع عنه لباس الحزن فإنه ولا شک ینقل للآخر رسالة غائمة عن الإسلام، وحسب الدکتور الکرباسی سیکونون: "سببا فی مزید انتقاد الأعداء والمتربصین بالإسلام، إذ اشتهر منهم بأن الإسلام دین الحزن والکآبة ودین لا یتماشى مع العصر، مما دفع ببعض المسلمین إلى الوقوع فی التفریط بسبب إفراطهم ونسوا بأن دیننا الحنیف دین الوسط ودین تطور یناسب کل عصر وکل مکان وفیه الثابت والمتحرک مما جعله یفوق کل الأدیان ویرتقی على جمیع الحضارات"، ولهذا یؤکد على الاحتفال بالأعیاد الإسلامیة الأربعة: "عید الأضحى المبارک، عید الفطر المبارک، عید الغدیر الأغر، عید الجمعة الجامعة" حیث شُرِّع عید الفطر فی السنة الثانیة من الهجرة، کما أن الأضحى شُرِّع فی السنة الثالثة (بحار الأنوار: 20/8)، کما أن: "هناک مناسبات أخرى یمکن تسمیتها بالإصطلاح الحدیث أعیاداً، کموالید المعصومین (ع) وذکریات البعثة والإسراء والمعراج وما إلى ذلک".

وإلى جانب الإفراط فی مساحات الحزن، هناک التفریط فی میدان الفرح، فحرم البعض على الناس تنفس الهواء العلیل، والإبتهاج بالأعیاد ووضع الزینة، فالعبوسة عندهم دین یدان به، والمرح عندهم ضلال، وکل ما یبعث على الحبور هو من وساوس الشیطان، ومثل هذه الشریحة کما یقول الفقیه الکرباسی: "طغى علیها الجمود الفکری مع الأسف فأخذوا یحرّمون کل مظاهر الحزن والفرح معتمدین على أقوال شاذة تارکین وراء ظهورهم فعل الرسول (ص) وأهل بیته (ع) متمسّکین بعمل بعض الصحابة فی تعاملهم بالقسوة والجفاء ممن لم یکونوا من أهل بیت الوحی والرسالة".

بهجة الآخر

ومن المفارقات أن البعض یشدد على المناسبات الدینیة فی أحکامه ویتغافل عن المناسبات الوطنیة فی بلده، فعلى سبیل المثال یقلل مثل هذا البعض من أهمیة الإحتفال بذکرى میلاد النبی الأکرم (ص) ویضرب صفحا عن الإحتفالات الوطنیة من قبیل الیوم الوطنی للبلاد، مع أن الإحتفال بذکرى صاحب الرسالة إحیاء للنفوس وتذکیر للأمة بنبیها وتذکیر للبشریة برسول الرحمة الإنسانیة، بل إن تذکر صاحب الرسالة الخالدة فی یوم میلاده هو مصداق للمودة والمحبة وإشعار وإشهار بعمق الولاء، کما إن الاحتفال بالمناسبات الوطنیة لیس فیه ضیر، ولکن ما یصح فی المناسبات الوطنیة فمن باب أولى یصح فی المناسبات الدینیة، ولذلک فإن الفقیه الکرباسی الذی یدعو إلى إحیاء المناسبات الدینیة یرى فی الوقت نفسه أن: "المناسبات الوطنیة إذا لم تکن منافیة للعقیدة لا إشکال من إحیائها".

ولا یقدح بفکرة الإبتهاج بمیلاد المعصوم إذا احتفل الآخر غیر المسلم بنبیه، فلیس هذا من التشبه بالآخر لیکون بدعة محرمة، وإذا کان الآخر لا یقر لخاتم الرسل بالنبوة، فبالقطع فإن المسلمین یقرون لرسول الآخر بالنبوة، بل یذهب الفقیه الکرباسی أکثر من هذا إلى جواز الإحتفال بأعیاد الآخر ما لم یخالف العقیدة، إذ: "یجوز إحیاء ذکریات أول سنة من التقاویم المختلفة شرط أن لا تکون المناسبة مخالفة للعقیدة، وذلک مثل إحیاء رأس السنة المیلادیة، ورأس السنة الشمسیة"، ویرى أنه: "لا إشکال فی إحیاء ذکرى ولادة الأنبیاء السابقین کالنبی إبراهیم وموسى وعیسى (ع)، ولکن على الطریقة الإسلامیة بمعنى عدم الإنخراط فی تقالید الأدیان الأخرى المنافیة للإسلام".

ومثل هذه المناسبات کما یعلق الفقیه الغدیری: "یمکن أن نعتبرها موعداً سنویا لتجدید العهد مع الرب الرحیم بطاعته والإلتزام بامتثال أوامره واجتناب معاصیه، ولا خصوصیة ملحوظة فیها إلا ذلک، إلا إذا عدّ الإهتمام باحتفال رأس السنة فی تقویم خاص، من إعانة أعداء الدین فلا یجوز، والواقع الخارجی لیس کذلک، بل وفی الحساب السنوی الشمسی أو القمری أو المیلادی أو الهجری تذکّر وتذکیر بأیام الله تعالى، فیشمله قوله الله تعالى (وَذَکِّرْ فَإِنَّ الذِّکْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِینَ) الذاریات: 55، و(وَذَکِّرْهُمْ بِأَیَّامِ اللَّهِ) إبراهیم: 5"، ویرى الفقیه الغدیری الوجوب من بعض الوجوه للإحتفال بموالید الأنبیاء السابقین على طریق هدایتهم بعدما شاب دینهم التحریف، ولذلک فإن: "إحیاء ذکرى موالیدهم- الأنبیاء- علیهم السلام بقصد هدایة المدّعین لأتباعهم قد یکون واجبا، خاصة فی هذا العصر الذی نحن نعیش فیه ووسائل الإعلام الغربی تتهم الأمة الإسلامیة بشتى أنواع التهم الباطلة، فیجب على المسلمین الإهتمام الکبیر فی جلب الآخرین إلى معارف الدین الإسلامی الحنیف وإحیاء ذکرى ولادة الأنبیاء السالفین(ع) فهی من أحسن الأعمال وأسهل الطرق الموصلة إلى ذلک الهدف السامی".

على طریق التحول

ربما یتساءل المرء: کیف یحتفل المسلمون بأعیادهم فی البلدان غیر الإسلامیة؟

سؤال مشروع، لکون العید وبخاصة عیدا الفطر والأضحى من معالم المسلم أینما حل وارتحل، فالأمر غیر مقتصر على البلدان المسلمة.

فی الواقع من خلال التجربة، فإن المسلمین فی البلدان الغربیة من مهاجرین أو مواطنین خرجوا فی السنوات الأخیرة بأعیادهم من المنازل إلى المساجد لتنتقل إلى الساحات العامة، وفی بعض البلدان إلى الدوائر الحکومیة کما فی بریطانیا حیث یحتفل مجلس العموم البریطانی بعید الفطر من کل عام بدعوة وجوه وشخصیات إسلامیة ومؤسسات فاعلة، فضلا عن اللقاء الجماهیری العام فی ساحة الطرف الأغر وسط لندن الذی بدأ الإحتفال به منذ سنوات قلائل، ومثل هذا أخذ دوره فی بعض دول العالم، ومع أن الدول الغربیة لا تعترف بعطل رسمیة للمسلمین فی أعیادهم لکن البعض منها مثل بریطانیا بدأت تتفهم ذلک، ولذلک وعلى سبیل المثال تتساهل المدارس بخصوص تغیب الطلبة فی عیدی الفطر والأضحى، على العکس فی الأیام الأخر فإذا ما تغیب الطالب عن الحضور تجری إدارة المدرسة فی الیوم نفسه اتصالا هاتفیا مع الوالدین لمعرفة سبب تغیبه أو تغیبها، بل إن المدارس بدأت فی السنوات الأخیرة تسأل الوالدین عن العیدین حتى تکون على بینة من تغیب الأولاد وبخاصة فی المدارس التی تشهد کثافة إسلامیة ملحوظة.

وبهذا صار الإحتفال بالعیدین واحدا من معالم الحیاة فی بریطانیا بعامة والغرب بخاصة، على أمل أن تتفهم المجالس الغربیة التشریعیة ضرورة سن قوانین لاعتبار الأعیاد الإسلامیة عطلا رسمیة، مما یجعل الإحتفال بالأعیاد أقرب إلى الوجوب منه إلى الجواز، لأنه إذا عد عدم الإحیاء من الجفاء کما یؤکد الفقیه الکرباسی، فإنه فی هذه الحالة: "یحرم عدم إحیائها، وحینئذ وجب إحیاؤها بمقدار یصدق معه الإحیاء"، بل ویذهب بعیدا إلى الوجوب: "إذا أصبح إحیاء هذه المناسبات أو بعضها شعاراً للمسلمین أو المؤمنین أو وسیلة للحفاظ على أصل العقیدة، وجب إحیاؤها، وکذلک إذا أصبحت وسیلة لترویج الدین"، ولکن بشرط: "إبعاد هذه المناسبات عن المحرمات کالغناء والعزف والرقص واختلاط الرجال بالنساء وتناول المحرمات"، وفی المقابل: "توزیع کل أنواع المشروبات والأطعمة والحلویات فیه أجر وثواب، وبالأخص إذا وزعت على الفقراء"، ولهذا نجد بعض المؤسسات الإسلامیة الخیریة فی بریطانیا على سبیل المثال تولم فی شهر رمضان للفقراء وبخاصة للمشردین من غیر المسلمین کتعبیر عن المحبة وإنسانیة الإسلام فی إعانة الفقیر، وهو مشروع ینبغی أن یعمم لبیان أهمیة الإسلام فی متابعة أحوال الإنسان من مسلم أو غیر مسلم، لأن الإنسان اخو الإنسان والناس کما یقول الإمام علی بن أبی طالب (ع) فی وصیته للصحابی الجلیل مالک بن الحارث الأشتر النخعی (ت 37 هـ) عندما ولاه مصر: أن الناس" صنفان إما أخ لک فی الدین وإما نظیر لک فی الخلق"(نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 3/605)، وقد سئل النبی محمد (ص): "من أحب الناس إلى الله؟ قال: أنفع الناس للناس" (الکافی: 2/164)، فالمبعوث إلى الناس رحمة یتحدث عن النظیر فی الخلق لا خصوصیة الأخ فی الدین.

إن إقامة الإحتفالات وإحیاء المناسبات الدینیة والوطنیة والإجتماعیة تعتبر محطة للتزود النفسی والروحی، وهی دعوة للحیاة واغتنام مباهجها فی الحدود المعقولة، ومن یحظر على الناس الفرح والسرور، یحظر علیهم استنشاق نسیم الحیاة!