دعم الموسوعة:
Menu
Introduction to the Persian Poetry: No.1

أضواء على مدینة عابرة للمجرات

 

لفت انتباهی وأنا فی الطریق إلى مطار القاهرة عائداً إلى لندن بعد زیارة عمل فی الفترة 19-25 حزیران یونیو 2011م، قیام کوکبة من الشباب وهم على قارعة الطریق مشمرین عن سواعد الجد منشغلین بتنظیف الأرصفة وإعادة دهنها وصباغتها، وفی ید أحدهم لافتة تدعو الناس إلى التبرع بمبلغ زهید لإعادة إعمار شوارع العاصمة، وهو منظر جمیل یأتی مکمِّلا لرسالة الشباب المصری فی میدان التحریر فی التغییر والدعوة إلى التعددیة السیاسیة الحقیقیة القائمة على حریة الرأی واحترام الرأی الآخر، وهی رسالة مضادة لأولئک الذین عمدوا إلى حرق مؤسسات الدولة مستغلین غیاب الأمن لمدة أسبوعین، وحسب أحد الباعة عند باب جامع الأزهر الشریف، کانت القاهرة معطلة لمدة ستة عشر یوما خوفا من بطش مجموعات "البلطجیة" المنفلتة عن القانون والعصابات التی تسلَّلت من أوکارها تبحث عن اللقمة الحرام.

ساقنی مشهد الشباب المصریِّ الذین یوحی زیُّهُم الموحَّدُ بمظهر طلبةِ الجامعات والجمعیَّات الشبابیة المثقفة، إلى مسقط رأسی مدینة کربلاء المقدسة التی تعرضت للحرق والتدمیر أکثر من مرة خلال السنوات الأولى التی تلت سقوط نظام صدام فی 9/4/2003م، ولم یکن التدمیر على ید النظام البائد کما حصل فی آذار مارس عام 1991م عندما فتح فوهات مدفعیته الثقیلة علیها لقمع انتفاضة أهلها، بل کان على ید شباب وصبیة یزعمون حبهم للإمام الحسین(ع) وینتصرون للمقدسات بالروح والدم!، ففی المرة الأولى تعرضت فنادق المدینة والدور للحرق والتدمیر بالأسلحة الخفیفة والمتوسطة تحت مدعى حمایة العتبتین المقدستین الحسینیة والعباسیة، وفی المرة الثانیة وخلال الزیارة الشعبانیة فی أغسطس آب عام 2007م تحولت شوارع کربلاء إلى ساحة حرب وهجرها أهلها واعتصموا فی بیوتهم وتعرضت جدران الحرم الحسینی الشریف وممتلکاته الخارجیة إلى الحرق والنهب، وخلَّف الخراب أکثر من ستین قتیلا والمئات من الجرحى، وغاب الأمن عن المدینة لیومین متتالین تعبث بها أیادی الخارجین عن النظام.

ومن المفارقات بین الموقفین أن الشباب المصری خلال الفلتان الأمنی واصل اللیل بالنهار وتسلَّح بما یملک من أدوات لحمایة مقام رأس الإمام الحسین(ع) من أیدی العابثین الذین تطاولوا على مراقد الأولیاء والصالحین فی عموم مصر تحت مدعى "التوحید الخالص"! وأعدُّوا العدة لتهدیم المقام الحسینی الشریف ومرقد السیدة الجلیلة زینب الکبرى(ع)، وفی کربلاء حیث مرقد الإمام الحسین(ع) عبثت به أیدی دعاة الحب الحسینی!.. مفارقات محزنة ومخجلة فی آن واحد.

ولا یخفى على کل ذی بصیرة أن المدینة وعِرْضَ الإنسان وناموسه صنوان، فمن یفرّط فی حمایة مدینته مقدَّسة کانت أو غیر مقدَّسة، فرَّط فی الدفاع عن عرضه وحمایة ناموسه وشرفه، فکیف والمدینة هی کربلاء التی تشرَّفت بمرقد سید شباب أهل الجنّة الإمام الحسین(ع) وصارت قبلة للمستضعفین وکعبة للأحرار یستلهمون منها الصبر على عادیات الزمن؟ فالأمر عندئذ عظیم والحمایة أعظم.

هذه المقدمة أوحاها إلیَّ کتاب "أضواء على مدینة الحسین" الصادر حدیثا (2011م) عن المرکز الحسینی للدراسات بلندن فی 594 صفحة من القطع الوزیری للمحقق الدکتور الشیخ محمد صادق الکرباسی، والذی یمثل الجزء الأول من باب "مدینة الحسین" الذی یضم 25 جزءاً، وهو أحد أبواب دائرة المعارف الحسینیة الستین التی تفوق أعدادها الستمائة مجلد صدر منها حتى یومنا هذا 67 مجلداً، ولأن المدینة أغلى من المال والأهل فإن الکرباسی یدعو أهلها ومن یزعم محبة الثاوی فیها إلى الوفاء لها، وهو یقول من الطویل:

بلادی عزیزٌ تُربها نشأتی فیها = وَفیٌّ لها قلبی حنیناً مدى الدهرِ

جواری لسبط المصطفى قد سقانی جر = عةً فجَّرَت فی الرمل دالیة النَّهْرِ

فأوفوا معی فی الکیل والحِلِّ عن صدقٍ = وکونوا على نهجٍ معی وافرِ الخیرِ

عالَمان متداخلان

من عادة الباحث عن معالم مدینة ما أن یغور فی تناول تاریخها وتمصّرها والمدنیات أو الحضارات التی حلّت فیها، وکل باحث یوجه عدسته على جانب معین من المدینة، ولکن العدسة لا تخرج عن حدود الدولة وإذا توسعت حدقتها (زومها) طالت المنطقة والإقلیم وربما القارة، وإذا فُتحت عن آخرها تم دراستها کجزء من الکرة الأرضیة، لکن الکرباسی فی "أضواء على مدینة الحسین" وجّه عدسة منظار التکبیر (الرادار) إلى خارج الکرة الأرضیة وغاص فی عمق الزمن السحیق والنشأة التاریخیة للکون والمجرات والمنظومات الشمسیة مرورا بمنظومتنا الشمسیة والکرة الأرضیة لتعود ترددات أشعة عدسته إلى مجسّاته الأرضیة لتحیط هالتها حول مدینة کربلاء التی تقدّست بسید شباب أهل الجنة، الجنّة التی عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقین.

والمؤلف فی تفرده فی البحث العلمی حیث یبدأ من نشأة الکون نزولاً عند کربلاء إنما یحاول أن یربط العالم العلوی بالعالم السلفی، فالإنسان لا یعیش بمفرده فی الکرة الأرضیة وهذا الجرم غیر منقطع الصلة عن المجموعة الشمسیة وهی بدورها متصلة بأخواتها من المجموعات التی تشکل مجرة والأخیرة نقطة فی بحر المجرات المتوزعة على مساحة هذا الفضاء الکونی الذی یتمدد ویتسع باستمرار (وَالسَّمَاءَ بَنَیْنَاهَا بِأَیْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) سورة الذاریات: 47، ومجرد شعور المرء بأنَّه جزء من منظومة کونیة تجعله یفکر بما وراء الجسد المشدود إلى جاذبیة الأرض، ویجد لنفسه مندوحة من التفکیر الحر والرغبة فی الإرتباط بالعالم العلوی عبر الوسائل التی وفّرها مدبر الکون لبنی البشر ولغیرهم من المخلوقات التی تعیش فی أجرام سماویة أخرى یحاول القرآن أن یرشدنا إلیهم عبر آیات قرآنیة متعددة، من قبیل قوله تعالى: (وَلِلَّهِ یَسْجُدُ مَا فِی السَّمَوَاتِوَمَا فِی الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِکَةُ وَهُمْ لا یَسْتَکْبِرُونَ) سورة النحل: 49، وحیث استقلت الآیة بذکر الملائکة فلابد أن تکون هناک مخلوقات (دابة) من غیر سکنة الأرض تسجدُ لله وتعبُدُه.

وعناوین الکتاب تعکس نوعیة البحث الذی طرقه المؤلف لیستقل فی الحدیث عن المدینة حیث جاءت کالتالی: الکون، مجرة درب التبانة، المجموعة الشمسیة، الکرة الأرضیة، خطوط الطول والعرض، الأقالیم والقارات، قارة آسیا، نقاط من آسیا، الأدیان والحضارات وجذورها فی آسیا، المذاهب، الفِرَق، الحضارات، الکتب المنزلة من السماء، العراق، نقاط سریعة عن العراق، الأوائل فی العراق، معالم أخرى، من تاریخ العراق، الحدود والموقع، العراق إداریا، التقسیمات الإداریة، سطح العراق، عراق الزراعة، المناخ، ثم محافظة کربلاء، وعن الأخیرة فإنَّ أجزاء هذا القسم شملت العناوین التالیة: کربلاء جغرافیا، تاریخیا، سیاحیا، اقتصادیا، اجتماعیا، فکریا، علمیا، ثقافیا، سیاسیا، أدبیا، وأخیراً کربلاء مستقبلا حیث أنَّ للمؤلف تصوره الخاص عن تطویر المدینة من النواحی کافة وبخاصة فی مجال التخطیط والعمران.

ویحدثنا الکرباسی وبشکل مختصر عن: حدود کربلاء، مساحة کربلاء، بیان إحصائی لمحافظة کربلاء، مدینة کربلاء (المرکز)، أحیاء کربلاء، أحیاء غیر معلَّمة، نقاط بارزة، المسافة بین کربلاء والمحافظات العراقیة، البعد الفضائی بین کربلاء والأماکن المقدسة، المسافة بین کربلاء وعواصم دول الجوار، مواقیت الصلاة فی کربلاء، وأخیرا کربلاء والمؤلفات.

مفارقة مؤلمة

ومن المفارقات المؤلمة أن مدینة کربلاء التی کانت تمتلک حدودا طویلة مع الجزیرة العربیة وتمثل 12 فی المائة من مساحة العراق أی 57 ألف کیلو متر مربع، صارت بقرار من نظام صدام اتخذه عام 1981م تمثل 1 فی المائة من کل مساحة العراق أی (5034) کیلو متراً مربعاً أی باستقطاع 52 ألف کیلو متر مربع من مساحتها وضمها إلى مدینة الأنبار التی أصبحت تمثل ثلث محافظات العراق الثمانیة عشر بنسبة 32 فی المائة من مساحة العراق أی 83 ألف کیلو متر مربع بعد أن کانت مساحتها عام 1960م بنحو 43 ألف کیلو متر مربع أی الزیادة إلى النصف.

ولا ندری أین ذهبت حکمة الأنظمة المتعاقبة على العراق فی رعایة المدینة المقدسة التی تستقبل کل عام عشرات الملایین من الزائرین فی المناسبات العامة والخاصة وتحرِّک العجلة الإقتصادیة العراقیة بفضل السیاحة الدینیة!، حتى أصبحت الکثافة السکانیة بعد الاستقطاع تمثل 93 شخصا لکل کیلو متر مربع واحد حسب إحصاءات عام 1977م بعدما کانت النسبة 5 أشخاص لکل کیلو متر واحد، وأصبح نفوس المدینة حسب أرقام عام 2007م (887859) ومثلهم من النازحین إلیها من المحافظات الأخرى.

وممَّا یؤسف له أنَّ الحکومات المتعاقبة مارست مع المحافظات العراقیة وسکانها ما مارسه الإستعمار الغربی للدول العربیة والاسلامیة عند تخطیط الحدود وتقسیمها، فخلق بین کل دولتین مشاکل حدودیة لازال المسلمون إلى الیوم یعانون منها وقد دخل العراق بسببها فی نهایة القرن العشرین فی حربین مع إیران والکویت حصدت الملایین من الأرواح، وهکذا الأمر مع المحافظات العراقیة التی تعانی بعضها من انقسامات سیاسیة بخصوص نسبة عائدیة الأقضیة والقرى إداریاً، فهناک مشکلة فی بغداد وثانیة فی الموصل وثالثة فی کرکوک ورابعة فی دیالى وخامسة فی کربلاء، وسادسة وسابعة!

وفی اعتقادی أنَّ الخلاف الحاصل بین مدینتی الأنبار وکربلاء المقدسة والذی خلقته حکومة عبد الکریم قاسم ومن بعدها حکومة صدام حسین، یمکن أن یُحل بهدوء وبالنظر إلى شخصیة صاحب المدینة المقدسة الإمام الحسین(ع) الذی یتقرب المسلمون إلى الله ورسوله بالمودة إلیه، وإذا عجزت المادة 140 من بنود الدستور العراقی فی إعادة الأراضی المستقطعة إلى مدینة کربلاء المقدسة فإنَّ المادة 118 الخاصة بتشکیل الأقالیم یمکن أن تکون حلا لجمع المحافظتین فی إقلیم واحد ضمن العراق الکبیر وبالتالی یمکن أن یشکل هذا الإقلیم مثالاً طیباً لإقلیم عراقی متجانس بسنته وشیعته یُفشل مخططات الإستعمار والطائفیین الساعین إلى التفرقة والتجزئة وهدم کیان الأمّة العراقیة.

إحیاء الأحیاء

لا مجال للشک أنَّ تکریم العَلَم فی حیاته أولى من تکریمه بعد مماته، فکم من عَلَمٍ رحل وغصته معه، منعته مروءته وکرامته من الإفصاح عمّا یجیش فی صدره، وکم من عَلَمٍ حورب فی حیاته وسارع الحاسد إلى تدبیج المقالات بعد رحیله والإطناب فیها کأنه والعلم قد أکلا من ماعون واحد وتشارکا فی الملبس والجیب! بل وکم من عَلَمٍ حورب من بنی صنعته ومدینته لأنه تفوق علیهم فی إظهار معالم مدینته، مع أنَّ خیر تفوُّقِهِ یعمُّ أبناء المدینة من مرید وحاسد.

ولأنَّ الکرباسیَّ شدیدُ الحرص على إعطاء کُلِّ ذی حقٍّ حقَّه ومن الدَّاعین إلى بناء جسور المحبَّة بین العَلَم والجمهور على طریق البناء وازدهار المدینة المقدسة، فإنه أدرج فی کتابه کل ما وقع تحت یدیه من کتب ومؤلفات تناول مؤلفوها مدینة کربلاء بخاصة، وفصَّل القول فی شرح الکتاب والسیرة الذاتیة لمؤلفه أو معده، وبالتالی فإنَّ الشروحات التی جاءت وفق الحروف الهجائیة تمثلُ فی اعتقادی أوَّلَ تعریفٍ (ببلوغرافیا) بالکتب والمؤلفات والمخطوطات والرسائل الجامعیة التی تناولت مدینة کربلاء المقدسة بالتفصیل من جوانب مختلفة أخذت من صفحات الکتاب 211 صفحة أی أکثر من ثلث الکتاب، ولم تتضمن القائمة الکتب الخاصة بشخصیة الإمام الحسین(ع) فإنَّ لها موقعا آخر فی باب "معجم المصنفات الحسینیة".

وتمثل القائمة خاتمة الجزء الأول من "أضواء على مدینة الحسین" وحسب العلامة الکرباسی: (تعد هذه الخاتمة بمستوى تکریم للذین کتبوا عن هذه المدینة من جهة وإرشاد للقارئ إلى المصادر التی یمکن الرجوع إلیها فی هذا الإتجاه)، فهی فی واقع الحال خارطة طریق للباحثین والدارسین والأکادیمیین وبخاصة طلبة الجامعات والدراسات العلیا الذین یحرصون عند تناول المدینة على وضع خطة بحث متکاملة، فما جاء فیها من شروحات واسعة تضع الباحث على السکة الصحیحة وتفتح أمامه أبواب التحقیق والتوسع.

وممَّا یلاحظ فی قائمة الکتب المشروحة أن المؤرخ العراقی السید سلمان بن محمد هادی آل طعمة ارتقى أعلى رفوفها حیث استأثر بـ (47) کتابا مطبوعا ومخطوطا من بین 195 مؤلفا ورد ذکرها فی القائمة أی بنحو الربع، مما یعکس الدور الکبیر الذی یلعبه السید سلمان آل طعمة المولود فی مدینة کربلاء المقدسة عام 1935م فی تخلید هذه المدینة وتعظیمها، والعطاء الذی قدمه لها استناداً إلى قاعدة الوفاء لمسقط الرأس والمودة لأهل البیت علیهم السلام ونصرة الحق وأهله.

وتُظهر مؤلفاتُه المناحی التی تناولها فی تمجید کربلاء المقدسة وأهلها من قبیل: الأسر العلمیة فی کربلاء، أعلام الفکر والأدب فی کربلاء، أعلام النساء فی کربلاء، الانتفاضة الشعبانیة فی کربلاء، تاریخ التعلیم فی کربلاء، ومضات من تاریخ کربلاء، الوقائع والحوادث السیاسیة فی کربلاء، الموروثات والشعائر فی کربلاء، کربلاء فی ثورة العشرین، وغیرها العشرات، وفی کتابه "حکایات من کربلاء" یروی فیه جُلوسَهُ فی شبابه مع کبار السن واستقصائه حکایاتِ أعلامِ المدینة ووجهائها، ومن تلک حکایة "الحاج علی شاه وکیفیة ثرائه" فی إشارة إلى والد جدی المدفون داخل المرقد الحسینی الشریف الحاج علی بن عبد الحمید العطار البغدادی الخزرجی (1857- 1909م) الشهیر بالحاج علی شاه البغدادی، على أن القصة التی أوردها السید آل طعمة الواردة على الألسن هی غیر التی یتداولها أحفاده، وقد ختم الحکایة بالقول: (ألا رحم الله الحاجَّ علی شاه، لقد کان لهفة الحاضر، وزاد المسافر، داعیاً للصلاح والخیر العام، وعلى مثله فلیعمل العاملون).

وفی تقدیری أن السید آل طعمة الذی نذر نفسه لهذه المدینة التی یؤمها الملایین من شرق الأرض وغربها لم یلق التکریم اللائق به فی المحافل العراقیة والکربلائیة، وبخاصة وأنَّ محبرته لم ینضُبْ معینها وروحه ونفسه شابّتان کقلمه الشابِّ الیافع الذی یخطُّ کلَّ صغیرة وکبیرة عن مدینة غیّرت وجه التاریخ منذ عام 61 هجریة، وهو على خلاف البعض لا یبخل فی تقدیم المعلومة لمن یطلبها وحسب تعبیر الکرباسی بحق آل طعمة: (ولع بالمدینة وبالأدب والشعر والتألیف حتى استحق بجدارة أن نصفه بمؤرخ کربلاء)، ولعلّ أقلّ الواجب تجاه هذا العلم البارز أن یصار إلى طباعة مخطوطاته وهی غیر قلیلة وأن یصار إلى إعادة طباعة مؤلفاته والتحقیق فیها فهی تراث أمّة، بل أن یُصار إلى إقامة مؤسسة خاصة بالتراث الکربلائی تتولى رعایة مؤلفاته وکل المؤلفات المهتمة بتوثیق المدینة ومعالمها، وهذا أضعف التکریم، فالأمة التی ترعى تراثها هی أمّةٌ حیَّةٌ تثمرُ أشجارها فی کل المواسم والفصول، وسیکون الأمر على قدر من الأهمیة إذا تولت کلُّ مدینة مقدسة مسؤولیةَ الحفاظِ على تراثها واحترام أعلامها وتکریمهم فی حیاتهم وتعظیمهم فی غیابهم، فإحیاء الأحیاء حیاة وإحیاء الأموات فوات.

أندر من الکبریت

ما یفرّق الکتابة الإنشائیة عن البحثیة هو أنَّ الثانیة فیها من المعاناة ما لا یدرکها إلاَّ مَن اکتوى بنارها أو وقف علیها، ولطالما لمست معاناة المحقق الکرباسی فی اقتناص المعلومة من عالم المجهول، فهو لا یکلُّ ولا یملُّ عن البحث عنها، ولا أضل قلب الحقیقة إذا ما قلت أنَّ البحث عن الذهب أو التنقیب عن النفط فی بعض الأحیان أسهل من تسقُّطِ المعلومة والبحث عنها، وقد تعجز فرق الإکتشاف ولا یصیبُه لُغُوبٌ، لکنه فی الوقت نفسه یشعر بالأسى لأنَّ بعض أبناء مدینته یبخلون علیه بالمعلومة، ولو کانوا من أبنائها حقاً لما بخلوا علیه وعلیها، وهل یبخل الإبن على من أرضعتهُ من صدرها وغذّته من عطائها؟ وهذه غصّة أخرى یشعر بأشواکها من یقترب من الحقیقة ولذلک فإنَّ الکرباسی یُشهد الله: (کم عانیت فی تحصیل معلومة صغیرة من أهالی هذه المدینة وبالذات ممن عایشتهم وتربیت معهم ولکنهم بخلوا أو تجاهلوا أو احتکروا ما کان لدیهم من المعلومات التی لعلها تفید القارئ فی مجملها، ولاشک فإنِّی لا أعمم کلامی هذا بل هناک فتیة أطلقوا ید العون أخص منهم بالذکر السَّلْمانَ مِن آل طعمة).

وفی الواقع أن المعلومة صغیرةً کانت أو کبیرةً وبخاصة ما یتعلق بمدینة ککربلاء هی ملک الجمیع واحتکارها ضرب من الإثرة والممانعة عن نشر العلم الذی یعتبر زکاة مفروضة على صاحب المعلومة کما قال أمیر البیان علی بن أبی طالب(ع): (زکاة العلم نشره)، ولیس الباسط للمعلومة کالقابض لها لا یستویان، وبتعبیر رئیس الحکومة المحلیة محافظ مدینة کربلاء المهندس آمال الدین الهر وهو یقدم للجزء الأول من "أضواء على مدینة الحسین": (إنَّ خدمة مدینة کربلاء المقدسة بأی وسیلة کانت، إعلامیة أو معنویة أو مادیة أو من خلال المسؤولیة المباشرة وغیر المباشرة لهی شرفٌ ما بعده شرف) وهذا الشرف ناله والده الفقید الشیخ عبد المجید بن حمید الهر الأسدی (1328- 1409هـ) فی تألیفه کتاب "مشهد الحسین وبیوتات کربلاء" فی خمسة أجزاء الذی قال فیه الکرباسی: (نشأ ودرس فی کربلاء على أعلامها وتخرّج خطیباً شاعراً وکاتباً أدیباً رغم أنه کان مکفوف البصر ویتمیز بالصراحة والجرأة)، کما ناله شقیقه الشهید رجاء الدین الهر، ولذلک فلا غرو أن یضیف فی المقدمة: (وأحمد الله الذی وفَّق والدی وأجدادی وأبناء أسرتی (أسرة آل الهر) لخدمة هذه المدینة المقدسة عبر فترات حیاتهم الموغلة فی القِدَم، من خلال علمهم وأدبهم وتضحیاتهم السخیة لحمایة أرض هذه المدینة، وأحمده تعالى أن أسبغ علیَّ نعمة خدمة کربلاء وأهالیها الکرام من خلال تسنُّمی مسؤولیة محافظ کربلاء المقدسة).

وعلى شرف خدمة هذه المدینة تأتی دائرة المعارف الحسینیة فی الصدارة، ولذلک فإنَّ صاحبَ المقدمة یعرب عن سروره وغبطته وشکره: (لدورها الکبیر فی رفد المکتبة الإسلامیة بالمؤلفات والمصنَّفات الغزیرة والمتفردة بالنوع أولاً، وبالکمِّ ثانیا).

فی واقع الأمر أنَّ هذا الجزء من الموسوعة یرجع بذاکرتنا إلى الوراء، إلى حیث العلوم المتنوعة التی کان یضطلع بها العالم المسلم، فهو الفقیه والطبیب والفلکی والفیزیائی والریاضی واللغوی والأدیب والشاعر، وقلیل ما هم فی حاضرنا حیث صار التخصص سمة العالم وخصوصیة العلوم، بل هم أندر من الکبریت الأحمر.