دعم الموسوعة:
Menu

 

بحور الخلیل تجتاح سواحل فارس مبکراً

 

إنما المرء مشاعر وأحاسیس .. قاعدة فطریة تکوینیة لا محید عنها یتحرک فی ساحتها کل أبناء البشر مهما تعددت مستویات الوعی عندهم، ومهما اختلفت الطبقات الإجتماعیة والإقتصادیة بینهم، وهی موجودة عند الحاکم والمحکوم، عند الظالم والمظلوم، عند القریب من شریعة الرب والبعید عنها، فکل إنسان مهما علت رتبته أو دنت یمتلک مشاعر یتعامل بها مع الآخر، لکنها تتفجر فی أحایین وتتجمد فی أخرى، فهی تکمن ولا تنعدم، فانعدامها یُخرج المرء من محیط إنسانیته وکینونته.

وللمشاعر فی حیاة الإنسان مصادیق وتطبیقات خارجیة کثیرة، فکل إنسان یترجم المشاعر بفطرته، ولأنها ذات بعدین أو طرفین أحدهما صاحب الشعور والآخر الذی یقع الشعور علیه کمشاعر الوالدین والأبناء والزوج وزوجته والحاکم العادل والمحکوم وما شابه ذلک، فإن أثرها واضحة المعالم یتحسسها الطرف الآخر ولهذا سُمیت أحاسیس ویستشعرها الآخر ولذلک سُمِّیت مشاعر، فهی محسوسة الأثر ومستشعرة.

ولعلَّ من أبلغ الأثر الکلمات الصادقة التی یطلقها الحاسُّ فی حق المحسوس به ویبثه مشاعره، ومنها انبثقت کلمة الشاعر الذی یترجم أحاسیسه ومشاعره إلى کلمات متناسقة لها وقعها فی ذات الإنسان المتلقی وإیقاعها فی بواطنه، وحیث أن المشاعر فطریة یشترک فیها أبناء آدم وحواء فإن نظم الشعر وإنشاءه وإنشاده لم یکن حکراً على الناطقین بالضاد الذین تفوقوا على الأمم الأخرى فی باب النظم والشعر، فکل أمة لها نسقها الشعوری المترجم شعراً بمفهومها الخاص لا بمفهوم الشعر العربی ببحوره الخلیلیة، وکان الصوت مقدماً على الکتابة والحروف، بل إنَّ الحروف هی رسم للأصوات، من هنا فإن الأذن البشریة بشکل عام تقع تحت تأثیر الصوت وحتى إن لم تفقه الکلمات ومعانیها بخاصة إذا کانت من غیر لغة المتکلم بها، لأن التأثیر الأوَّلی جاء من الصوت ولحنه، وکذا الأمر فی الکلمات المقفّات أو المسجّعة، فإن المرء یستشعر نهایاتها أو الروی بتعبیر الشعر حتى وإن لم تکن الأبیات موزونة شعریا، وبتعبیر الشیخ إبن سینا حسین بن عبد الله المتوفى سنة 427هـ وهو فی معرض وصف الشعر العربی: (إن الشعر هو کلام مُخیَّل مؤلَّف من أقوال موزونة متساویة، وعند العرب مقفاة ومعنى کونها موزونة أن یکون لها عدد إیقاعی، ومعنى کونها متساویة هو أن یکون کل قول منها مؤلفاً من أقوال إیقاعیة فإن عدد زمانه متساوٍ لعدد زمان الآخر، ومعنى کونها مقفاة هو أن تکون الحروف التی یُختم بها کل قول منها واحدة).

• شعر وشعور ومشاعر

وبلحاظ کینونة الشعور وفطریتها، نجد إعتزاز کل أمة وکل لغة بما لدیها من أدب کلامی منطوق أو مکتوب یأخذ مادته الأولى من خامة الشعور، ولأن مادة الأدب بشقیه المنثور والمنظوم میدان ضیق لا یستوعب کل أبناء الأمة الواحدة وإن استشعره الجمیع وأحسوا به، فإن مغالیقه أحوج ما تکون إلى مفاتیح تکون من سنخ الأقفال وهذه لا نجدها إلا فی جعبة قلة من الأدباء الواقفین على مسارات میدان الأدب المنظوم وزوایاه وانعطافاته، وتعظم قیمة المفاتیح إذا کان حاملها یتحدث أکثر من لغة ویسیح فی أداب أکثر من أمة، ومنها تأتی أهمیة کتاب (المدخل إلى الشعر الفارسی) فی جزئین والمطبوع حدیثا (1433هـ 2012م) للأدیب الدکتور محمد صادق الکرباسی الصادر عن المرکز الحسینی للدراسات بلندن، حیث صدر الأول فی 441 صفحة من القطع الوزیری والثانی فی 337 صفحة وکلاهما مقدمة إلى (دیوان الشعر الفارسی) الذی یمثل أحد أقسام (الحسین فی الشعر الشرقی).

فالشعر والشعور والشاعریة کلها من مادة لغویة واحدة، وکل واحدة لها علاقة بالأخرى، صحیح أن (الأدب النثری هو أساس الأدب، ویتبعه الأدب المنظوم –الشعر- حیث أن البلاغة هی القاعدة المتینة التی یتولد من رحمها الشعر) کما یقرر الأدیب الکرباسی بید أن الشعر والشعور متداخلان إلى حد بعید وبتعبیره: (والشعر یبدأ بالمنظوم ویرتقی بالطبع إلى ما کان مؤثراً بالشعور الإنسانی فیطلق علیه الشعر، ومن هنا جاءت تسمیة النظم المطبوع بالشعر)، ولهذا طالما جرى الکلام أن النظم شعر والشعرَ شعرٌ، فالنظم والشعر کلاهما کلام موزون ومقفى ولکن الأول صنعة یلامس الشعور من بعید یتلقاه الآخر سماعیا فیستشعره أو یدعه یخرج من باب الأذن الثانیة، والثانی إرهاصات شعوریة تدغدغ مشاعر المتلقی بلا استئذان فتحط رحالها فی مکامن نفسه.

ولیس النظم والشعر من حیث التوافق والتعارض شعوریا حکراً على الشعر العربی، فکل مجتمع له أن یتذوق الأدب المنظوم فی جانبه النظمی وجانبه الشعری أو الشعوری، لأن الکلمات هی مادة لشعر الأولى، وکل أمة تسالمت على مفردات تتعامل بها فی الحیاة الیومیة، فبعضها ذات استعمال یومی وأخرى عند الحاجة، إلا أن عدد الکلمات والمفردات تختلف من أمة إلى أخرى، ولا شک أن اللغة العربیة تمتلک من الکلمات ما تفوق اللغات الأخرى فضلا عن الاشتقاقات التی توفر للأدیب المرونة الکافیة لتطویع جذر الکلمة ومشتقاتها فی الأدب المنثور أو المنظوم، ولهذا کان الشعر العربی حافظاً للغة العربیة.

• العربیة حاضرة فی الفارسیة

وکلما اندکت الأمة فی تاریخ عمیق وسحیق توفرت فیها کلمات کثیرة ومشتقات أکثر، ویدخل فی هذه القاعدة الإجتماعیة الثابتة الأدب الفارسی الذی هو موضع الدراسة فی الجزء الأول من (المدخل إلى الشعر الفارسی)، وحیث اختلف علماء التاریخ فی نسبة الأصل الفارسی حیث أرجعها البعض إلى فارس بن علم بن سام بن النبی نوح(ع) وبعضهم أرجعها إلى فارس بن طهمورث، وطهمورث هذا أول من حکم بابل، وهناک أقوال أخرى، لکن الثابت أن لغة فارس قدیمة جداً، ویرى المؤلف أنها تعود إلى القرن 39 قبل الهجرة النبویة لکنها من الناحیة الفعلیة أقدم من هذا التاریخ، لأنَّ: (أساس کل لغة هو التفاهم الذی یحصل بین طرفین أو أکثر لیشمل بعد ذلک شرائح من المجتمع ویعتمد أساسا على اللفظ، ولیس هناک لغة أنشئت أبجدیتها قبل أن یُتلفظ بمفرداتها، بل إن هناک مدة تفصل بین أصل التفاهم باللفظ والصوت وإحداث الرسوم الهندسیة للحروف، حیث أن الکتابة مرحلتها متأخرة وتحتاج إلى حضارة أرقى من الأولى إذ من متطلباتها أن لا یکون الطرفان أمیَّین إذ الأمی یمکنه التحدث دون أن یکتب ویسطر الحروف والمفردات).

ومع هذا فإن لغة أیة قوم وبشکل عام هی نسیج لغات أمم متنوعة، ویختلف التداخل فی المفردات بحجم تأثر الأمة الواحدة بالأمم الأخرى وتأثیر الأخیرة على الأولى، فالفارسیة الحدیث (الدریَّة) هی حصیلة لغات عدة وهی: اللغة الپهلویة الفارسیة، اللغة الهندیة، اللغة الترکیة، اللغة المغولیة، اللغة الإنکلیزیة والفرنسیة، واللغة العربیة. کما أن اللغة الفارسیة حالها حال اللغات الأخرى لها لهجات تُظهر طبیعة قطاع من الشعب الذی یتحدث بها، وعلى مستوى إیران التی یتحدث أهلها باللغة الفارسیة کلغة رسمیة فهناک لغات متعددة تعکس طبیعة قطاع شعب من الأمة الإیرانیة یعیش على بقعة من الأرض الإیرانیة المترامیة الأطراف وهی: الآذریة، الکردیة، العربیة، البلوچیة، الُّلرِّیَّة. أما من حیث اللهجات فإن الفارسیة لها لهجات وهی فی أغلبها تنسب إلى محافظة أو مقاطعة وهی: الطبریة (گیلان ومازندان وسمنان)، الخراسانیة (خراسان)، الإصفهانیة (إصفهان)، الیزدیة (یزد)، القمیة (قم)، الکرمانیة (کرمان)، الشیرازیة (فارس)، البندریة (بوشهر وهرمزگان)، البختیاریة (بختیاری)، الطهرانیة (طهران).

ولأن اللغة العربیة دین الإسلام، ولأن الإسلام دخل إیران مبکراً، فإن العربیة دخلت فی کل محاور الحیاة لیس فی إیران فحسب وإنما فی کل الدول غیر الناطقة بالعربیة والتی دخل إلیها الإسلام، لکن قرب إیران من المحیط العربی وتقبل الشعوب الإیرانیة فی إیران القدیمة الممتدة جغرافیا فی إیران الحالیة ودول الجوار کأفغانستان وآذربایجان للدین الإسلامی ساعد کثیراً فی إصطباغ المفردات الفارسیة بالمفردات العربیة، من قبیل المفردات الدینیة والإداریة والأدبیة والسیاسیة والجغرافیة والتاریخیة والآلیة والزراعیة والصناعیة، وحسب ما جاء فی مقدمة کتاب (برهان قاطع) لمحمد حسین التبریزی المتوفى بعد سنة 1062هـ فإن المفردات العربیة الواردة فی قاموس اللغة الفارسیة یفوق من حیث العدد کل اللغات الأخرى التی تأثرت بها الفارسیة، ولهذا فلا غرابة أن یکون عدد الشعراء فی العهد السامانی (261- 389هـ) الناظمین باللغة العربیة فی کل من خراسان القدیمة وما وراء النهر بلغ 119 شاعراً بغض النظر عن الفلاسفة والعلماء، وفی تقدیر الکرباسی أنه: (إذا ما لوحظ القاموس الفارسی تجد أن نسبة عالیة ربما فاقت 50% من المفردات عربیة الأصول)، فلیس مستغربا أن تقرأ فی بعض الأماکن العامة لافتة تقول (استعمال دخانیات أکیدا ممنوع است)، فالعبارة متکونة من خمس کلمات تدعو إلى الإمتناع عن التدخین، أربع منها عربیة والأخیرة (است) أداة ربط من فعل الکینونة للتوکید .

من هنا یعتقد الأدیب الکرباسی أن: (الأدب الفارسی الحدیث تمخض من الأدب العربی وأخذ قوته منه ولکنه لم ینس أدبیاته الفارسیة، وأما الشعر الفارسی فلاشک بأنه أخذ کل مقوماته من العروض العربیة)، وهذه حقیقة ثابتة ولا غرابة فیها کما یذهب الیه المؤلف إذ: (لم تکن للغة الفارسیة قبل الإسلام أبجدیة خاصة بها، وأصبحت الأبجدیة العربیة أبجدیتها، وبذلک أصبحت الکتابة للإیرانیین أسهل من ذی قبل. لقد تطورت اللغة الپهلویة- والتی کانت رائجة فی عهد الساسانیین- بفعل التمازج مع اللغة العربیة، وترعرع الأدب بفعل الإختلاط الثقافی بین الشعبین العربی والفارسی) وکان من نتاج هذا الاختلاط والتمازج والتأثیر الإیجابی للغة والأدب العربیین على الأدب الفارسی أن: (بدأ الشعب الإیرانی یقدم الشعراء العظام للعالم أمثال حافظ الشیرازی وسعد الشیرازی ومولانا جلال الدین البلخی وعمر الخیام وآخرین)، ویقطع المؤلف أن واقعة کربلاء واستشهاد الإمام الحسین(ع) عام 61 للهجرة ودخول هذه الواقعة فی ضمیر الشعب الإیرانی المسلم لها الدور الکبیر فی تأثیر الأدب العربی على الأدب الفارسی من خلال المفردات أو الصور البلاغیة.

• مراحل الشعر الفارسی

وإذا کانت اللغة الفارسیة قدیمة والعربیة بدأت منذ القرن الثامن والعشرین قبل الهجرة النبویة کما یعتقد بذلک المؤلف، لکن الأدب العربی المنظوم ببحوره وقوافیه المعهودة منذ قبل الهجرة هو متقدم على الأدب الفارسی المنظوم، فالأدب الفارسی القدیم ضم النثر المسجَّع المعبَّر عنه بـ: (شعر آهنگی- الموسیقی-) وشعر التفعیلة والمعبر عنه بـ: (شعر هجائی)، أما الشعر الفارسی المتقید بالوزن العروضی والقافیة والوقع الموسیقی بدأ مع دخول الإسلام فی إیران، وإلى هذا یشیر الأدیب الإیرانی ذبیح الله صفا شمهمیرزادی المتوفى سنة 1420هـ صاحب کتاب "گنج سخن" أی خزینة الکلام، فهو وإن ینفی أن یکون الفرس قد أخذوا الشعر من العرب وإنما ساعدت الحضارة العربیة فی تحسین الشعر الفارسی لکنه یؤکد بالقول: (ویظهر من القرائن التی لاحظناها أن الشعر فی إیران الفرس بدأت من مقطوعات غیر مقفاة لیتطور عبر قرون متمادیة إلى الإلتزام بالقافیة الناقصة تارة والکاملة تارة أخرى إلى أن تکامل الشعر الفارسی حیث الوزن والقافیة فی العهد الإسلامی باللغة المتداولة المعروفة بالدریَّة).

ولم یجد الشعراء الناطقون باللغة الفارسیة بُداً من استخدام المفردات العربیة بل أن الشاعر: (أبو القاسم الفردوسی المتوفى سنة 409هـ والذی یُعرف بعدائه للغة العربیة لم یتمکن من الکتابة إلا بلغة أبجدیتها هی العربیة، کما إنَّ أکثر من ثلاثین فی المائة من کلمات ملحمته المعروفة بالشاهنامه هی کلمات عربیة). وهذا الشاعر احمد بن قوص الدامغانی المنوچهری المتوفى سنة 432هـ استخدم الأوزان العربیة التی لم تکن بعد مستخدمة فی الشعر الفارسی، وهذا الشاعر محمد بن إسماعیل اللامعی الکرکانی المتوفى بعد عام 465هـ کان ضلیعا باللغة العربیة واستعملها فی أشعاره، وهذا الشاعر أبو الطیب الباخرزی المقتول سنة 467هـ کان ینظم بالعربیة والفارسیة وله دیوان بالعربی باسم دیوان باخرزی، ومثله کان الشاعر محمود بن آدم السنائی المتوفى سنة 545هـ، وضم دیوان الشاعر ظهیر الدین طاهر بن محمد فاریابی المتوفى سنة 598هـ أربعة آلاف بیت باللغتین الفارسیة والعربیة، والشاعر مشرف بن مصلح الشیرازی السعدی المتوفى عام 691هـ الذی یمثل أحد أضلاع مثلث الأدب الفارسی إلى جانب الفردوسی وحافظ الشیرازی اشتهر فی استخدامه الکلمات العربیة، ومثله کان حافظ الشیرازی محمد بن بهاء الدین المتوفى سنة 791هـ وبخاصة تأثره الشدید بالقرآن الکریم الذی کان یحفظه عن ظهر قلب فسمی بالحافظ، والأسماء کثیرة فی هذا المجال کالشاعر أبو القاسم بن عیسى قائم مقام الفراهانی المتوفى عام 1251هـ، والشاعر علی اسفندیاری المتخلص بـ: "نیما یوشیج" المتوفى سنة 1379هـ، وغیرهم.

ولأن العراق مجاور لإیران ومنه دخل الإسلام إلیها وتأثر الأدب الفارسی بالأدب العربی، فإن النقاد یقسمون تاریخ الأدب الفارسی وتطور لونه وسبکه حسب القرون نسبة إلى جغرافیة التأثیر ومکانه، فیقولون اللون أو السبک الخراسانی أو الترکستانی الممتد من القرن الرابع الهجری حتى القرن السادس وکان مصدره خراسان، والسبک العراقی المنتشر فی أواسط القرن السادس الهجری حتى القرن التاسع، وسمی بالسبک العراقی لاستعمالهم الکلمات العربیة والاستعارة والکنایة والأغراض العربیة التی وردت إلیهم من العراق، والسبک الهندی الذی بدأ فی القرن التاسع الهجری حتى أواخر القرن الثانی عشر وانتشر فی أفغانستان والهند، وثنائیة السبک العراقی والخراسانی والممتد من أواخر القرن الثانی عشر حتى یومنا هذا.

والأدب الفارسی المنظوم المحاکی للوزن والقافیة کما هو معروف فی الشعر العربی، وإن کان قد نشأ فی القرن الثالث الهجری، لکنه مرّ فی مراحل عدة أشار إلیها الأدیب الکرباسی حسب القرون الهجریة، فالذین وضعوا اللبنات الأولى للنظم فی الفارسیة هم الشعراء الذین عاشوا فی نهایة القرن الثالث وبدایة القرن الرابع الهجریین، والأخیر کان تمهیدا للقرنین الخامس والسادس حیث ازدهر فیهما الشعر الفارسی وبخاصة فی القرن الخامس الذی شهد انتشار النظم الفارسی فی الأقالیم وخارج حدود إیران وخصوصاً فی الهند التی تعاطت شعوبها مع اللغة الفارسیة الوافدة مع الإسلام کلغة مقدسة إلى جانب العربیة فبالفارسیة أسلموا وبالعربیة قرأوا القرآن. وفی القرن السادس الهجری ازداد عدد الشعراء باتساع رقعة الجغرافیة الناطقة بالفارسیة، ولکن الشعراء فی القرن السابع اتجهوا إلى النظم فی التصوف والعرفان، کما أن الأمراء والملوک فی القرن الثامن الهجری اتجه بعضهم إلى نظم الشعر کالسلطان أویس الأول الجلائری المتوفى سنة 776هـ، والسلطان عماد الدین المظفری المتوفى سنة 789هـ.

ومع حرکة عجلة الزمن ارتفعت أعداد الشعراء الناظمین بالفارسیة کما هو الأمر فی القرن التاسع الهجری، ویلیه القرن العاشر الهجری الذی شهد لوحده بروز 1599 شاعراً کما یذهب إلى ذلک الأدیب سعید بن علی أکبر النفیسی المتوفى سنة 1386هـ فی کتابه تاریخ نظم ونثر در إیران ودر زبان فارسی. واستمر الحال کما هو علیه من تزاید الشعراء فی القرن الحادی عشر الهجری، لکن الأدب الفارسی تعرض فی القرن الثانی عشر الهجری إلى نکسة کبیرة جرّاء الهجمات العسکریة الأفغانیة على إیران، غیر أنَّ تحولاً جدیداً حصل فی القرن الثالث عشر الهجری مع قیام الدولة القاجاریة التی: (رعت الشعراء والأدباء وبذلت العطاء لمن مدحوهم وفتحوا باب البلاط بمصراعیه لهم مما أعادوا للإیرانیین مجدهم الأدبی)، وفی هذا القرن بالذات: (بدأ الشعر الحسینی یتوسع إنشاءاً وإنشاداً). ومع حلول القرن الرابع عشر الهجری الذی شهد حرکة المشروطة فی إیران عام 1324هـ لتنظیم صلاحیات الحاکم، تم استخدام الشعر کوسیلة سیاسیة للوصول إلى الأهداف، لکن الأدب المنظوم فی نهایة القرن شهد انتکاسة جدیدة بسبب الصراع بین المؤسستین الدینیة والسیاسیة الحاکمة وتوجه الحکم الإیرانی نحو الغرب: (لکن الشعراء الحسینیین لم یتوقفوا عن النظم رغم أن التعازی منعت لعقود من الزمن فبرزت هناک طائفتان من الشعراء یمکن أن نصنفهم بالعلمانیین وبالإسلامیین بسبب ممارسات الدولة والوسائل الإعلامیة التی استخدمها النظام الحاکم)، وفی القرن الخامس عشر الهجری الذی شهد قیام الجمهوریة الإسلامیة: (وفی ظل هذه الدولة الإسلامیة بدأ تحول کبیر وجذری فی کل مناحی الحیاة وکان الأدب إحداها وتوجه الکثیرون نحو الثقافة الإسلامیة حیث یمکن تسمیتها العودة إلى أصولهم وجذورهم وانشق قسم ضئیل عن الظهور العام حیث اختاروا لأنفسهم العلمنة منهجاً والغرب ملجأً).

• إستشراقات واستشرافات

ولا یقتصر حدیث المدخل إلى الشعر الفارسی عن الشعر العمودی القریض، فالمؤلف یتطرق إلى کل الموضوعات ذات العلاقة بالشعر الفارسی، ومن ذلک "الشعر الحر" الذی ظهر بین الناطقین بالفارسیة فی القرن الرابع عشر الهجری بعد أن شاع بین الناطقین باللغة العربیة، ولا یعارض المؤلف هذا النمط من الشعر کلیاً فهو نوع من أنواع أدب الکتابة وإن رفضه آخرون ولکنه یعید شیوع الشعر الحر إلى أسباب عدة: (أهمها تدنی وضع الأدب بشکل عام)، وفی الأدب الفارسی کان الشاعر علی اسفندیار نیما یوشیج من أوائل الذین وضعوا أسس الشعر الحر وقد تأثر بالمدرستین الفرنسیة والعربیة حیث کان یجید الفرنسیة والعربیة، ولا یعنی هذا أن الأدب الفارسی لم یعرف الشعر الحر بل أن الشعر الفارسی المقفى بدأ نثراً مسجعاً أشبه بشعر التفعیلة أو شعر الحر وهو یعود فی بدایاته الأولى إلى العهد الساسانی، وفی العصر الحدیث یعود إلى شعر البند، ولهذا یرى الأدیب الکرباسی: (إن الشعر الحر أصله فارسی وأخذه العرب من الفرس، وأما الشعر العمودی أصله عربی وقد أخذه الفرس منهم).

وکما لدى الأدب العربی المنظوم عروضه ومیزانه الشعری به یعرف وزن البیت وبحره، کذلک للأدب الفارسی المنظوم عروضه وهی مأخوذة من الأدب العربی ورائده الخلیل بن أحمد الفراهیدی المتوفى سنة 175هـ، ویعتبر شمس الدین محمد بین قیس الرازی المتوفى سنة 628هـ هو خلیل الفرس فی الدوائر العروضیة القدیمة، وقد أوصل الدکتور الکرباسی الدوائر العروضیة فی الأدب الفارسی إلى 42 دائرة تضم 110 بحراً على غرار التفاعیل الخلیلیة وقد مثَّل لکل بحر ببیت من الشعر الفارسی من نظمه بخاصة فی البحور التی لیس لها أمثلة فی الأدب الفارسی.

لا یخلو إصدار من مجلدات دائرة المعارف الحسینیة من مقدمة أو تقریض لعلم من أعلام الإنسانیة، وهذه المرة جاءت من سوریا وبقلم الأدیب البروفیسور أسعد علی وهو یقرَّض للجزء الأول من المدخل إلى الشعر الفارسی، فیکتب بأسلوبه الأدبی المتشبع عرفاناً واستشراقا: (نفهم مستوى الدین فی الشعر الفارسی المتجه شطر الحسین .. ومن نوافذ هذا الأفق: نسمع موسیقا الحماسات فی الشعر الفارسی المترنَّم والمتقدِّم باسم الحسین .. الحسین فی هذا الشعر: تاج یُشرِّف حاملیه).

فبحور الشعر الفارسی فیها مرافئ للشعر الحسینی، ولذلک یؤمن مرشد الإتحاد العالمی للمؤلفین باللغة العربیة خارج الوطن العربی أن: (الإمام الحسین فی الشعر الفارسی: یحقق طموح دوائر الشعر وأبحرها)، ثم أن: (دائرة المعارف الحسینیة بمئات مجلداتها: تؤکد هذا المؤکَّد ... لقد اجتهد صدیقنا الدکتور الشیخ محمد صادق الکرباسی: بحشد جیوش الکلم المتطوِّعة من خیر الأمم .. لترفع رایات الحسین على أعلى القمم) مضیفا بقلمه الذی یقطر أدباً: (ما کشفه الشیخ الکرباسی لقراء المدخل إلى الشعر الفارسی یُشبه الجمیل بذاته .. فی علم اللغة .. وفی فنِّ الشعر .. وعلم أوزانه).

وکیف لا ترسو سفن البحور الشعریة عند مرافئ النهضة الحسینیة والإمام الحسین(ع) هو سفینة النجاة کما یقول جده النبی الأکرم محمد(ص): (إن الحسین مصباح هدى وسفینة نجاة وإمام خیر ویمن وعز وفخر وبحر علم وذخر) ولذلک یرى البروفیسور أسعد علی أن: (حسین الشعر الفارسی .. کحسین الشعر الهندی .. کحسین الشعر الصینی .. وکحسین الشعر الباکستانی .. وکحسین الشعر العربی)، و(قوافی الشعر الحسینی فی الأدب الفارسی تدور مع کل البحور .. لتکون السعادة بهذه السفور، الذی یحقق الحیاة بلا موت، بل یحقق السعادة بلا موت .. کما یؤکد خامس کتب أضواء القرآن لخامس أصحاب العباءة) وعلیه فإن: (الإمام الحسین على مرایا الحق .. یعنی: إمام الإصلاح من أجل الحقوق الإنسانیة .. ومن أجل الواجبات الرحمانیة).

وفی تقدیری أنه إذا کان الأدیب الکرباسی قد أماط فی مباحث هذا المدخل اللثام وأبان التأثیر الکبیر الذی ترکته العربیة على الأدب الفارسی بشقیه المنثور والمنظوم، فإن الکتاب بحد ذاته یمثل إضافة جدیدة ومتمیزة فی الأدبین العربی والفارسی وبرؤیة عربیة من لدن أدیب وعروضی ساقته الحاجة الملحة إلى دراسة الشعر الحسینی فی الأدب الفارسی، وبالتالی فإن هذا المدخل بجزئیه یشکل أحد أوجه تأثیر الأدب العربی على الأدب الفارسی.