دعم الموسوعة:
Menu

إطلالة جدیدة على فقه المذاهب الاسلامیة

 

لا تخلو امة من شریعة تضبط إیقاع وسطها الاجتماعی وتنظم حیاة أفرادها، تسلک بهم سبل الأمن والأمان والسعادة فی الحیاة الدنیا، فضلا عن سعادة الحیاة الآخرة بالنسبة للشرائع السماویة الممتدة بحبل من الوحی ما بین الأرض والسماء. کما لا تخلو امة من قائد او قیادة تمسک بزمام الأمور، تجلب لها منفعة او تدفع عنها مضرة، فالأمم تقاس بشرائعها، کما تعرف برجالها، فکلما کانت الشریعة اقرب الى العقل والمنطق والفطرة، کانت الأمة او المجتمع اقرب الى الواقع الإنسانی والحقیقة الإنسانیة، وکانت اقرب الى السعادة البشریة، وإذا کانت الأمة تعیش تحت ظلال شریعة السماء وأفیائها، یصونها الخیار من الرجالات ترجو فی الله رضاه وصلاح الأمة، فإنها تکون قاب قوسین من سعادة الدنیا أو أدنى من نعیم الآخرة.alminhaj-frontcover

والشریعة عنوان عام، له أن یتمثل بشریعة آدم (ع) او نوح (ع) او ابراهیم (ع) او موسى (ع) أو عیسى (ع) او محمد (ص)، کما له أن یتمثل بشریعة حمورابی او بوذا او زرادشت، کما له أن یتمثل بالرأسمالیة والاشتراکیة بوصفهما أسلوب تنظیم الحیاة البشریة وفق رؤى خاصة بهما، قد یقتربان من العقل والفطرة وقد یبتعدان، کما له أن یتمثل بما یعرف بشریعة الغاب، وان کان اللانظام هو الصفة الغالبة على هذه الشریعة، لکنها فی قبال العقل والفطرة هی شریعة أیضا، لأنها تنظم حیاة من یؤمن بها وفق شریعة خاصة بها قائمة على الفوضى واللانظام ومضادة العقل والفطرة.

کما إن للشریعة تفاصیل تکثر او تقل وفقا لتطور المجتمعات ورقیها وتمدنها، تبدأ بخطوط عریضة قلیلة تنسجم مع الحیاة البدائیة للأمة لتنتهی الى ما لا نهایة من التفاصیل والجزئیات تنشطر جزئیاتها کلما استجد فی حیاة الأمة والبشریة جدید، وتذهب امة وتأتی أختها، ومثلها تنسخ الشریعة او تتجدد، کلها او بعضها.

هذه الدورة من الشرائع القدیمة والحدیثة بعامة، والشریعة الاسلامیة بخاصة، یقرأها بأسلوب أکادیمی علمی، أستاذ الحضارة الاسلامیة، الباحث العراقی الدکتور ولید سعید البیاتی، مطالعا فیها ما بثه قلم البحاثة المحقق آیة الله الشیخ محمد صادق محمد الکرباسی من حقائق تاریخیة متعلقة بالشرائع السماویة والأرضیة منذ أن حطت قدم أبی البشریة الحالیة النبی آدم وجه الأرض والى یومنا هذا، على صفحات کتاب "الحسین والتشریع الاسلامی" فی القسم الأول من الجزء الأول، لیبحث فی القسم الثانی مصادر التشریع الاسلامی، وقد صرف الدکتور البیاتی جهده لدراسة الجزء الأول الذی هو واحد من عشرة أجزاء ضمن سلسلة دائرة المعارف الحسینیة، وصدرت الدراسة عن بیت العلم للنابهین فی بیروت، فی 120 صفحة من القطع المتوسط، حملت عنوان "المنهاج: دراسة فی الجزء الأول من کتاب الحسین والتشریع الاسلامی"، وهی دراسة تضع خطوطا مضیئة تحت عناوین الکتاب وهیکل البحث وأهم متونه، فجاءت عناوین الدراسة متماثلة مع عناوین الکتاب الأم.

یمهد المحقق الکرباسی فی تناوله لدور الامام الحسین فی التشریع الاسلامی، بمقدمة توغل فی عمق التاریخ، متناولا الشرائع منذ بدایاتها الأولى حتى شریعة الإسلام، استنفذت نصف الجزء الأول من الکتاب الذی صدر عن المرکز الحسینی للدراسات فی لندن، فی 540 صفحة من القطع الوزیری، فالعلامة الکرباسی کما یؤکد الدکتور البیاتی: "یقدم لنا منهجا جدیدا فی فهم التاریخ والتعامل معه، ویعرض تصوراً علمیا وعقلانیا فی آن واحد حول مفهوم التاریخ البشری والوجود البشری على هذه البسیطة"، وهو فی الوقت الذی یؤرخ لهبوط آدم (ع) بنحو سبعة آلاف سنة قبل الهجرة النبویة، لا ینفی ما أکدته الحفریات الأثریة والانثروبولوجیة عن اکتشاف عظام تعود لدهور طویلة قبل آدمنا (ع)، فهذا من ما ینسجم والأثر الاسلامی الوارد عن الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) فی قوله: (إن قبل عالمکم ألف ألف عالم، وإن قبل آدمکم ألف ألف آدم، فعالمکم آخر العوالم، وآدمکم آخر الآدمیین).

ویقرأ البیاتی ماهیة التشریع وفلسفته ومنشأه وأهدافه وتاریخه، حیث إن المشرع إما أن یکون خالق البشر او الانسان نفسه او مجموع أفراد المجتمع الواحد، ولما کان من أهداف التشریع کما یذهب الیه الکرباسی تحقیق سعادة الانسان وتحقیق النظام، فان هذین الهدفین یقصر الانسان او عموم المجتمع عن تحقیقهما، وبالتالی فان المشرع الأول هو العالم باحتیاجات البشر غیر المحتاج الیهم، وهو الله جل تعالى، یبقى أن للفقهاء حریة الاجتهاد فی دائرة المباحات او منطقة الفراغ الفقهی لمواکبة التطورات. وینفرد الفقیه الکرباسی فی بیان بدء تاریخ التشریع، بان حدد تاریخ هبوط آدم (ع) راجعا به الى العام 6880 قبل الهجرة النبویة، کما استظهر من سیر التاریخ ست مراحل، تبدأ الأولى بعام الهبوط وتنتهی السادسة بظهور الامام المنتظر الموعود محمد بن الحسن العسکری (ع).

وتختلف مصادر التشریع من دین لآخر ومن مدرسة عقائدیة لأخرى، قد تفترق فی مفاصل وقد تلتقی فی أخرى، وهذا ما یقرأه البیاتی فی فکر الکرباسی تحت عنوان "نظرة الفقهاء الى مصادر التشریع"، فهناک المدرسة المثالیة التی تتبنى أفکارها قیما علیا، لکنها لم تتمکن من تقدیم نظرة شاملة للکون، وهناک المدرسة الواقعیة التی ظهرت مع بدایات الثورة الصناعیة فی أوروبا وهی ذو نزعة مادیة بحتة تتبنى فلسفة الاعتراف بالواقع القائم ومتجاهلة الماورائیات، وهناک المدرسة التعادلیة او المدرسة التوفیقیة وهی حالة وسطى بین المدرستین السابقتین.

ولما کانت الأنظمة السیاسیة هی مرآة للفلسفة التی تؤمن بها وتقوم علیها مؤسساتها، فان الکتاب یتابع مناقشات الکرباسی للنظامین الرأسمالی والاشتراکی، فوجد أن النظامین القائمین فی عدد غیر قلیل من بلدان الأرض تجاهلت علاقة الفرد بخالقه وعلاقته بنفسه وعلاقته بالبیئة، وحصرت ترکیزها وتعاملاتها على علاقة الفرد بالفرد وعلاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة الفرد بالدولة، على خلاف النظام الاسلامی الذی اخذ العلاقات الست بنظر الاعتبار وتعامل معها على قدم المساواة، باعتبارها حلقات ست تشکل بمجموعها سلسلة سعادة الانسان فی الدارین، بخاصة وان الإسلام لاحظ فی تشریعه أمورا کثیرة أهمها: تکریم الانسان، العقل، العلم، المحبة، الاتحاد، الحریة، العدل، المساواة، النظم، الشورى، النزاهة والإخلاص، وتنمیة المواهب والکفاءات. ولم یکن الفقیه الکرباسی متحاملا على هذا النظام او ذاک بروح العصبیة، بل: "مما یحمد لشیخنا الباحث الکرباسی، وهو یبحث فی تواریخ النظم وفلسفتها، هو ذلک التجرد العلمی والاحاطة الفکریة بمختلف الاتجاهات الفکریة والفلسفیة ومدارسها، ولهذا نراه یتناول دراسة النظم، وهی من الدراسات التخصصیة، بروحیة الباحث المجد فی طریقه الى الحقیقة".

وقبل أن یدخل الکتاب فی تفاصیل مصادر التشریع الاسلامی، ینوه الى المرحلتین اللتین أفرزهما المحقق الکرباسی عند تناوله لمبحث "الشریعة الاسلامیة تاریخها وتطورها"، فالمرحلة الأولى او "عصر الوحی" تبدأ من 27 رجب فی العام 13 قبل الهجرة وحتى رحیل النبی محمد (ص) فی 27 صفر العام 11 هجریة، وفی هذه المرحلة کان التشریع الاسلامی ینزل عبر الوحی القرآنی، والوحی القدسی أی الأحادیث القدسیة الربانیة، والوحی التفسیری أی ما أملاه الرسول (ص) من سنته الشریفة على أئمة أهل البیت (ع)، والمرحلة الثانیة او "عصر الإمامة" تبدأ برحیل النبی الأکرم (ص) حتى الغیبة الکبرى للإمام المهدی المنتظر فی 14 شوال العام 329 هجریة، وضمت هذه المرحلة ثلاث فترات، وهی فترة الخلافة الراشدة وتبدأ برحیل النبی الأکرم (ص) وتنتهی برحیل الامام علی (ع) فی 21 رمضان العام 40 هجریة، ثم تلتها فترة التابعین، ثم فترة نشوء المذاهب وحتى یومنا هذا.

أما مصادر التشریع الاسلامی، فان المحقق الکرباسی وبمتابعة کل المذاهب الاسلامیة یجمعها فی خمسة عشر مصدرا، الى جانب المصدرین المجمع علیهما وهما: القرآن الکریم، والسنة النبویة، وهی على التوالی: سنة أهل البیت (ع)، الإجماع، العقل، القیاس، الاستحسان، المصالح المرسلة، فتح الذرائع، العُرف، شرع مَن قبلنا، مذهب الصحابی، القرعة، الحیل الشرعیة، الشهرة، السیرة، وأخیرا الأصول العملیة.

ویسترسل المؤلف مع المصنف فی بیان حجیة کل مصدر من مصادر التشریع، فالقرآن اثبت حجیته بنفسه، لأنه معجزة الله جل وعلا، فهو مصان من التحریف ولا اعتبار لبعض الروایات القائلة بتحریف القرآن، کما انه قابل للفهم وللناس الرجوع الى الراسخین فی العلم لبیان مقاصده، کما إن الاقتصار على خمسمائة آیة قرآنیة من أصل (6342) آیة فی بیان آیات الأحکام یعد بنظر المصنف قصورا فی فهم القرآن الکریم الذی هو دستور الحیاة. أما السنّة فان العقل دلیل حجیتها: "کأصل تشریعی وکضرورة من ضرورات الدین، فانه یحکم بأن قبولها یعنی قبول القرآن، للتلازم الحادث بینهما"، کما إن السنة مؤیدة بالقران والإجماع. وینفی المصنف عن أهل بیت النبی (ص) فاطمة والأئمة الأثنی عشر (ع)، شبهة الاجتهاد، ویثبت لهم العصمة کما هی ثابتة فی النبی الأکرم محمد (ص)، ولذلک فهو یرى أن السنّة تتسع لسنة أهل البیت لحجیة أفعالهم وأقوالهم وتقریراتهم، وان الاجتهاد یقع لما دون النبی (ص) وأهل بیته (ع) الذین خصهم الله بآیة التطهیر.

أما الإجماع فهو عنوان عام یحتمل احد عشر وجها، فهو: اتفاق الأمة، اتفاق أصحاب الرسول (ص)، اتفاق الخلفاء الراشدین، اتفاق الشیخین أبی بکر وعمر، اتفاق أهل المدینة، اتفاق أهل الحرمین مکة والمدینة، اتفاق أهل المصرین الکوفة والبصرة، اتفاق أهل الحل والعقد، اتفاق العلماء کافة، اتفاق علماء العصر، وأخیرا اتفاق مجتهدی المذهب الواحد، وقد انعکس هذا التشعب والتباین الواسع فی معانی الإجماع وأهله على المنهج الفقهی وفتاوى الفقهاء.

ولما کان العقل حسب وصف الفقیه الکرباسی یعنی: "القدرة التی یدرک بها الانسان ویحکم من خلالها على مدرکاتها"، فان البحث فیه شائک للغایة، لأن العقل یدرک البدیهیات ویعجز عن ما یفوقها، وهنا یتقدم المصنف خطوة جریئة الى الامام، ویدعو الفقیه الذی تنعقد علیه آمال الأمة فی الفتیا أن ینزل من قصر الخلوة العاجی ویعایش البیئة الاجتماعیة للأمة حتى یستطیع أن یُعمل عقله بما یتلاءم مع الفطرة الإنسانیة والواقع المعاش والمذاق الاسلامی.

ثم یتناول الکتاب بشیء من الاقتضاب المفید، مسألة القیاس وحجیته، والاستحسان وحجیته، والمصالح المرسلة وحجیتها والمرتکزة أصلا على خلفیة القیاس والرأی، والذرائع وحجیتها، والعُرف وحجیته والذی مآله الى العقل أو السنّة فهو لیس أصلا برأسه لیضاهی الکتاب والسنّة، والشرائع السابقة ومدى حجیتها فهی منسوخة بالإسلام بالنسخ العام کما إن التصدیق بها لا دخل له بالعمل بها فهی لیست أصلا قائما لوحده وإنما مرده الى الکتاب والسنة، والالتزام ببعض شرائع الأدیان السماویة السابقة إنما جاء بتشریع ثان من الشریعة الاسلامیة.

ویتوقف مؤلف "المنهاج" وکذا مصنف "الحسین والتشریع الاسلامی"، عند حجیة مذهب الصحابی، لخلافیة المسألة بین مدرستی النص والاجتهاد او مدرستی الإمامة والخلافة، بل خلافیتها بین أقطاب مدرسة الخلافة نفسها، فیناقش آراء رواة الحدیث فی بیان شخصیة وماهیة الصحابی ومدى حجیته وعلاقة الأخذ بمذهب الصحابی کمصدر للتشریع بعصمته من عدمها، وعند المصنف أن الصحابی الذی یجوز علیه الخطأ والسهو لا یعتد بقوله بل إن روایته للحدیث لا تعد حجة إلا من باب التواتر وبعد التثبت من عدالته، وهو یقف موقف الامام الغزالی أبی حامد محمد بن محمد بن احمد (450-505 هـ) الذی یؤکد: "إن مَن یجوز علیه الغلط والسهو لم تثبت عصمته عنه، فلا حجة فی قوله، فکیف تحتج بقولهم، مع جواز الخطأ، وکیف تدعی عصمتهم من غیر حجة متواترة، وکیف یتصور عصمة قوم یجوز علیهم الاختلاف؟ وکیف یختلف المعصومان؟ وکیف اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ینکر أبو بکر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا فی مسائل الاجتهاد على کل مجتهد أن یتبع اجتهاد نفسه... فانتفاء الدلیل على العصمة، ووقوع الاختلاف بینهم، وتصریحهم بجواز مخالفتهم فیه ثلاثة أدلة قاطعة"، ویتساءل المحقق الکرباسی فی نهایة بحث المسألة: "کیف یقول بعصمة الصحابة من یرى أن السهو والخطأ وما الى ذلک جائز على رسول الله (ص)"، فإذا کان النبی (ص) فی نظر هؤلاء غیر معصوم وهو الذی لا ینطق عن الهوى بصریح کتاب الله، فکیف تصح العصمة لمن دونه وهم عیال على سنته والقرآن الذی جاء به والعترة التی ترکها بین ظهرانی المسلمین؟

ویناقش الکتاب حجیة وشرعیة کل من: الحیل الشرعیة والشهرة والسیرة والقرعة والأصول العملیة، فالحیل الشرعیة او المخارج من المضایق او ما لا تبطل حقا ولا تحق باطلا، مما لا شبهة بالأخذ بها ولکن لیست کأصل وإنما فی بعض الموارد، وکذا الأمر مع الشهرة الروائیة والشهرة الفتوائیة، وکذا السیرة بقسمیها سیرة العقلاء وسیرة المتشرعة، وکذا القرعة او السهم والنصیب، وکذا الأصول العملیة او الوسیلة المباشرة للحصول على الحکم الظاهری فی قبال الحکم الواقعی.

وأرى کما یرى الدکتور ولید البیاتی عبر دراسته "المنهاج" أن کتاب "الحسین والتشریع الاسلامی" فی جزئه الأول یمثل: "دراسة تاریخیة فکریة وفقهیة، مقارنة فی آن واحد"، فهو إضافة متمیزة یؤصّل لتاریخ التشریع الاسلامی ویمنهج أصول الفقه المقارن.