دعم الموسوعة:
Menu

بصمات المبدعین على جدران العمارة الإسلامیة

 

الأمم حیة بقیمها السامیة، والأمم واعیة باحترامها للتراث، والأمم راقیة بارتفاع کعبها فی العلوم شتى، والأمم نبیهة بإجلالها لروادها السابقین وتعظیمها للماضین منهم وتکریم الذین یعیشون بین ظهرانیهم، فالأمة النابضة بالحیاة هی التی تعظم قادتها ولا تأکل فیهم أحیاءاً ولا تستأکل بهم أمواتا، وإنما تضعهم فی المنازل التی أنزلهم فیها رب العباد، ولا تعتدی بالتقدم علیهم ولا تجنح بالتخلف عنهم، لان الأمة فی الحالتین هی الجانیة على نفسها وهی الخاسرة.rawzatohuhayniyyah-frontcover

وفی الأمة الإسلامیة أسماء ورجالات لامعة ترکت آثارها فی سجل الأمة ولازالت الآثار تؤتی کلها بإذن ربها کل حین، وبعض من هذه الشخصیات جاء النص واضحا بتقدیم فروض المودة والمحبة لها، وأجلاهم مصداقا أهل البیت (ع) الذین أمر النص الإلهی على لسان النبی محمد (ص) الانصهار فی بوتقتهم: (قل لا أسألکم علیه أجرا إلا المودة فی القربى) سورة الشورى: 23، ولم ینقطع أثر النص برحیل النبی (ص) او رحیل الدائرة الاولى من أهل بیته، فالفعل "أسألکم" دال على الاستمراریة، أی مد حبل المودة لسلسلة أهل بیت النبی محمد (ص)، بید ان المصداق الأول للنص یبقى محتفظا بطراوته، وهو المودة للدائرة الاولى من أهل البیت (ع) وهم أصحاب الکساء (علی وفاطمة والحسن والحسین) الذین شهد القرآن لهم بالطهارة والعصمة: (إنما یرید الله لیذهب عنکم الرجس أهل البیت ویطهرکم تطهیرا) سورة الأحزاب: 33، ومن بعدهم الأئمة من صلب الحسین (ع)، بنص حدیث النبی (ص) المشهور عن ابن عباس (ت 68 هـ): (ألا وإن الإجابة تحت قبته والشفاء فی تربته والأئمة من ولده).

وربما یتساءل البعض کیف یمکن العمل بنص المودة بعد الموت؟

لا یجد المرء صعوبة فی الإجابة، لان الواحد منّا فی الحیاة الیومیة یکرم المیت بإکرام ذریته، وأما فی أهل البیت (ع) الذین قام على أکتافهم بناء الإسلام، فان العمل بهدی النبی (ص) وأهل بیته (ع) هو واحد من مصادیق المودة، واحترام مثاویهم ومراقدهم دلالة على المودة والمحبة، فکما کانت بیوتهم مهبط الوحی، فان مراقدهم مهبط ملائکة السماء، ومحل الأبدان التی هدّها سفر الحیاة والقلوب التی أنهکتها تقلبات الدهر، تتمسح على الأعتاب، تستحلب لبن الرحمان بأنامل المودة لأحب خلقه.

من هنا فان أی إعمار لمرقد من مراقد أهل البیت (ع) إنما یدخل فی خانة المودة، وأی خراب أو تخریب یدخل فی خانة القطیعة العملیة، لان القطعیة المجردة إنما هی جفاء أما القطیعة العملیة إنما هی مرحلة متطورة من العداء للرسالة الاسلامیة، وعمل متعمد لقطع وشائج المحبة والمودة بین المسلمین وأئمة أهل البیت تحت مقصلة التوحید!!

• مع الخالدین

کتاب "تاریخ المراقد" فی أجزائه الأربعة والخاص بمراقد الامام الحسین (ع) وأهل بیته وأنصاره، بقلم البحاثة الدکتور محمد صادق محمد الکرباسی، شکل تحفة عمرانیة وجوهرة تراثیة، ساح بین صفحاته الباحث العراقی، المقیم فی النمسا، الأستاذ سعید بن هادی الصفار، ووجد ان الأسماء الکثیرة التی ساهمت فی إعمار المرقد الحسینی الشریف بالمال والجهد والتی توزعت فی الأجزاء الأربعة من کتاب تاریخ المراقد تستحق ان تفرد فی کتاب مستقل، کجزء من المودة للإمام الحسین (ع) وخدمة الامام الحسین، بغض النظر عن النوایا، لان بعض المساهمین قادة وملوکا وأباطرة یذکرون عند بعض بالخیر وعند البعض الآخر بالشر. وقد صدر الکتاب عن بیت العلم للنابهین فی بیروت فی 120 صفحة من القطع الصغیر تحت عنوان "الروضة الحسینیة وإسهامات المبدعین الجلیلة" کما حررها الدکتور الکرباسی فی تاریخ المراقد، وحسبما جاء فی مقدمة الناشر ان: "کل محاولة لطمس معالم تلک الروضة الحسینیة تقابل بعشرات بل مئات المساهمات لإعلاء قبابها ومنائرها، ورفع ذکرها واستمرار إشعاعها الذی یصل الى مختلف دول العالم، فتحن الیها القلوب وتأتیها والهة عطشى للثم نمیرها العذب الذی یبعث الراحة فی القلوب، ویؤجج أوار الرفض والعز والکرامة فی النفوس". ولما کان الامام الحسین خالد الذکر متجددا کلما اخلق الزمان، فان المرتبط به یخلد معه صغر عمله او عظم، ولهذا فان هذا الکتاب: "وجه من وجوه التخلید لبعض المساهمین والمبدعین الذین حطت أناملهم على تلک الروضة إما فنا او إعماراً او تحسینا وتطویرا".

وإذا کان الملوک والسلاطین ساهموا فی إعمار المرقد الحسینی الشریف من خلال الهدایا والأموال، فان غیرهم کما یؤکد الصفار کان لهم قصب السبق فی تشیید العمارة الحسینیة، حیث: "کان لأرباب الصنائع على اختلاف ممارساتهم المهذبة الفضل الأوفى فی توظیف مهاراتهم وأفکارهم وأوقاتهم لنیل الأجر والثواب بإخلاصهم فی العمل والارتقاء فی إعلاء شأن المعالم الاسلامیة"، على ان لصاحب الموسوعة الحسینیة التی فاقت أعدادها الستمائة مجلد: "سماحة آیة الله الدکتور الکرباسی الفضل الأکبر فی تاریخ وتأصیل تلک العطاءات والإبداعات وإظهارها بقشبها المتألق مما أصبح صاحب فضل علیهم وعلى هذه المدینة المقدسة مما أصبحت لا وجود لها دون ذکر هذا المرقد الشریف بکل تفاصیله وتاریخه".

ووجد الصفار ان اهتمامه بدراسة التاریخ والتحقیق فیه وبخاصة ما یتعلق بالعمارة الاسلامیة وعمارة المرقد الحسینی الشریف، یعود لوشائج ثلاث محکمة الاتصال:

أولا: کونه یمت الى الامام الحسین (ع) بصلة العقیدة: "التی سرت إلیّ من الفطرة والنطفة وجرى نسوغها عبر الحلیب والدم".

ثانیا: کونه یمت الى مدینة کربلاء بصلة الولادة، فهی: "مسقط رأسی العزیز علی والتی نشأت فی بیئتها ونمیت من خیراتها".

ثالثا: کونه صاحب مؤلفات مطبوعة ومخطوطة اختصت بالمرقد الحسینی الشریف وتاریخ عمارته، صرف عقودا من حیاته لتألیفها، ولذلک فان هذا الکتاب و: "الحدیث عن هذا الموضوع هو من اختصاصی".

• بصمات أدبیة

لا یعرف قیمة العمارة الاسلامیة فی المرقد الحسینی الشریف إلا من شاهدها عن قرب، وما یلفت النظر فیها تلک الکتائب من القصائد والأشعار التی تطرز جوانب کبیرة من المرقد داخل الروضة الشریفة وخارجها وعلى الضریح، وکل شاعر تفوح قریحته بعطر خاص من الولاء والمودة والمحبة لهذا الامام الذی هوت قامته الى الأرض شهیدا مضرجا بدمه حتى لا تمیل قائمة الإسلام وتبقى الأمة الإسلامیة حیة بحیاة الرسالة الاسلامیة.

والتقط الباحث سعید الصفار 45 شاعرا ترکوا بصماتهم على جدران وسقوف وإطارات أبواب المرقد الحسینی الشریف، على ان بعض الأشعار لم یتم حتى الآن التعرف على ناظمیها او الوقوف على تراجمهم وفیهم من الفرس والترک والعرب.

ومن الشعراء الذین حطت طیور قوافیهم على جدران المرقد الحسینی الشریف هو الشاعر والقاضی الکاظمی المولد السید محمد هادی الصدر (ت 1385 هـ) حیث أُثبتت فوق باب الحر من الصحن الشریف ویسمى بباب رأس الحسین (ع) أبیاته التالیة من مجزوء الکامل:

أحظیرة القُدس التی ** فیها أمانُ الخافقینْ

حَسْبُ المفاخرِ أن تکو ** نی مهبطَ الروحِ الأمینْ

لکِ بابْ حطة وهو با ** بُ اللهِ للحقِ المبینْ

عنَتِ الحیاةُ له بنسـ ** ـبته الى رأس الحسینْ

ومن الشعراء الذین ذاب سکر قوافیهم فی کأس الحسین (ع) هو المؤرخ والشاعر العراقی الموصلی المولد عبد الباقی العمری ( 1279 هـ) الذی أنشأ من السریع یؤرخ لحوض سلسبیل أنشأه فی الجهة الجنوبیة من الصحن الحسینی الشریف احمد شکری بن الوالی نجیب باشا، وهذه بعض أبیاتها:

ویومَ عاشورا غدا زائراً ** سلیلُ ساقی الحوض نعمَ السلیل

مَن أمُّهُ بِضعةُ طه التی ** فی العالمین ما لها من مثیل

وجدُّه روح الوجود الذی ** تشرَّف الروح به جبریل

فشاهد الزوار تأوی الى ** مشهده الأعلى القبیل القبیل

فأترع الحوضَ لهم سُکَّراً ** مزاجُه الکافورُ والزنجبیل

حوضٌ هو الکوثرُ فی عینهِ ** على حسین مثلَ دمعی یسیل

ولجد والدی الحاج علی بن عبد الحمید البغدادی الخزرجی الشهیر بالحاج علی شاه البغدادی المتوفى فی العام 1909م (1327 هـ) سقایة فی منطقة باب النجف أوقفها لزوار الإمام الحسین فی العام 1324 هـ، ولازال بناؤها قائما الى یومنا هذا رغم مرور أکثر من قرن على إنشائها وهی تعتبر أثرا معماریا وحسینیا، وهی متصلة بالمنزل الذی شهد ولادتی وولادة أبی وجدی، وقد أرخها فیما بعد الشاعر العراقی السید مرتضى الوهاب (1916- 1973م)، بقوله:

أنشأ علی شاه من مآثره ** سقایة وردها من العسل

یجری بها الماء باردا عذبا ** من منهل بالرحیق متصل

باسم الحسین استهل تاریخا ** (یفیض بالطف سلسبیل علی)

وأرخها الأدیب والمؤرخ العراقی السید سلمان هادی طعمة ضمن "السبیل" أو السقایات التی أوقفت لخدمة أهل کربلاء وزوراها کما ذکر ذلک فی الصفحة 183 من کتاب "کربلاء فی الذاکرة" مضیفا ان السلسبیل: "کان یُزود سکان المنطقة بالماء البارد العذب وخاصة أیام الزیارات فی موسم الصیف" ولازال وبطرق مختلفة.

• إسهامات بلا حدود

یلاحظ فی العمارة الإسلامیة ابتعادها عن رسم ذوات الأرواح من إنسان وحیوان وطیور لأسباب شرعیة ودواع عرفانیة، وتجرد المعالم الإسلامیة من مساجد وجوامع ومراقد شریفة عن الزخرفة بشکل عام، بید أن فن العمارة اعتمد زخرفة الخط کبدیل وبه اشتهر، فقام الخطاطون بتطویع الحرف العربی فی أشکال زخرفیة بدیعة أعطى لواجهات الأماکن المقدسة وکتائبها زینة فوق زینة، ولعل أفضل مکان یمکن رؤیة هذا الفن البدیع هی مراقد الأنبیاء والأئمة والأولیاء.

ویتابع الباحث الصفار استقصاء الأسماء اللامعة من الخطاطین الذین لامست قصابتهم جدران المرقد الحسینی الشریف والذین کانوا: "یبذلون الجهد الفنی فی توظیف أقلامهم والاستفادة من بعض ممیزات الخطوط بإظهارها على أشکال زخارف ونقوش عوضا عن الرسوم التی کان یتجنبها الخطاط المسلم فی المساجد والأضرحة".

وبان له عشرون خطاطا ومن جنسیات مختلفة، منهم الخطاط العراقی المبدع محمد صبری بن مهدی البغدادی (ت 1372 هـ). ومنهم الأدیب والشاعر والخطاط السید صادق بن محمد رضا آل طعمة المولود فی کربلاء المقدسة عام 1928م، وعُدّ بعد سقوط نظام صدام فی 9/4/2003م من شهداء المقابر الجماعیة حیث اعدم مع ابنه السید ضیاء المولود فی کربلاء المقدسة العام 1957 والذی کان قد سلک طریق والده فی الخط وکان من مشاهیر خطاطی المدینة. ومنهم الخطاط العراقی الدکتور صلاح شیرزاد المولود فی مدینة کرکوک فی العام 1947م.

والى جانب الخطاطین، هناک مبدعون من: "الفنانین والرسامین الذین رسموا الروضة بلوحات مختلفة وهم من أقطار مختلفة کترکیا وإیران وفرنسا وألمانیا وبریطانیا والهند وقد صوروها حسب تصوراتهم"، وهم 27 مبدعا ومن هؤلاء إبراهیم النقاش ونجله جلیل حیث کان له مصنع للکاشی فی کربلاء المقدسة وکان من الرسامین والخطاطین. ومنهم الصائغ المبدع طاهر حسین وهو من مدینة بومبای الهندیة المتوفى عام 1401 هـ.

والى جانب الخطاطین والفنیین والمبدعین، المهندسون والمعماریون الذین: "ساهموا بمخططاتهم الهندسیة، وبأفکارهم وطاقتهم ببناء وإنشاء هذا الصرح الشریف إلا ان التاریخ لم یصرح بأسمائهم وقد تمکن سماحة الشیخ الکرباسی من رصد بعض منهم"، مثل المهندس علی بن عبد الصالح آل طعمة، والمعماری الشهیر الحاج حمودی بن رضا البغدادی المتوفى بعد عام 1391 هـ، والمقاول والمعماری الأردنی خلیل علی خلیل.

والى جانب هؤلاء المبدعین، مشرفون وساعون الى الخیر، فالمشرفون: "هم الذین یُخولون من قبل الملوک والسلاطین والأمراء وغیرهم من الباذلین الأموال وما یترتب من التکالیف لإنجاز المهام الموکلة الى هؤلاء ویمولونهم بما یلزم للصرف على المشاریع المناط إلیهم أمرها"، وعدَّهم الصفار نحو 21 مشرفا، ومن هؤلاء محمد بن إبراهیم بن مالک الأشتر، وهو أول من أقام قبة فی الإسلام ونصبها على قبر أبی عبد الله الحسین (ع) عام 66 هجریة، وشیخ العراقین العلامة عبد الحسین بن علی الطهرانی الحائری (ت 1286 هـ)، والشیخ جعفر بن علی کاشف الغطاء (ت 1290 هـ). أما الساعون فی الخیر والذین لهم خدمات مختلفة فی عمارة المرقد الحسینی الشریف وکربلاء المقدسة فهم کثیرون، منهم الشیخ محمد حسین بن أبی القاسم المؤید (ت 1420 هـ)، والشیخ علامة بن حسن الصالحی البرغانی (ت 1310 هـ)، والحاج عبد الهادی بن عبد الحسین الچلبی (ت 1408 هـ) وهو والد السیاسی العراقی المعاصر الدکتور أحمد الچلبی.

وبالطبع فان المساهمین فی دعم واعمار المرقد الحسینی الشریف لم یقتصر على الرجال فحسب، فللمرأة دورها المتمیز، بل لبعضهم: "الفضل وقصب السبق فی تعمیر وإصلاح ما أصاب کربلاء من النکبات والغزوات التی ألمّت بها، کما شملت رعایتهم أهل العلم والسدانة والمعوزین وغیرهم ما یسجله التاریخ بأحرف من نور"، ومنهن بدر جهان بنت محمد جعفر العرب زوجة السلطان فتح علی شاه القاجاری المتوفى عام 1250 هـ التی قامت بتعمیر وإصلاح ما دمره الاعتداء الوهابی على کربلاء المقدسة فی العام 1216 هـ. والسیدة تاج داربهو زوجة السلطان محمد علی منیر الدولة تاسع ملوک أودة الهندیة.

وختم الباحث سعید بن هادی الصفار کتابه بالإشارة الى الفنان السوری الخطاط عقیل بن محمد سعید العرفی الذی أبدع فی وضع درع عن المرکز الحسینی للدراسات. مع إعداد جدول بالاسماء والتواریخ التی وردت فی الکتاب، تسهل على القارئ العودة الى المتن.