دعم الموسوعة:
Menu

المرأة والدماء الثلاثة .. قراءة علمیة فی مسائل الأسرة

 

لم یتعرض مخلوق على وجه الأرض للظلم، مثلما تعرضت الیه المرأة، استغلوا رقتها وعاطفتها وبنیتها التکوینیة، لیسوقها الرجل بمزاجه کیفما یشاء لا کما شاء خالقها بوصفها النصف الأساس فی قوامة الحیاة الإنسانیة، فالرجال من غیر النساء أعجاز نخل خاویة، والنساء من غیر الرجال ثمار یطول قطافها أو یستحیل، فتموت فی أغصانها أو تتساقط میتة، فلا الرجال بغناء عن النساء، ولا البشریة تجری أشرعتها فی بحر الحیاة من غیر ریاح النساء، فکلٌ خلق الله له.

واجتهد البعض، ممن لازال یحبو فی طریق الفقه، لیضع الحواجز أمام حرکة المرأة فی عالم الدنیا، حتى منع عنها العلم والتعلم تحت یافطات أقل ما یقال عنها، أنها لا تنسجم مع دعوات الإسلام المستفیضة فی ضرورة التعلم وعدم قصرها على الرجال، ویحتفظ أرشیف السیرة، بصور رائعة عن قیام المرأة لیس بتعلم عموم العلم فحسب، بل السؤال من قادة المسلمین عن مسائل تتعلق بخصوصیات المرأة نفسها، کالحیض والنفاس.women-three-blood-frontcover

والکتاب الذی بین أیدینا والذی یحمل عنوان "المرأة والدماء الثلاثة" للفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق محمد الکرباسی، والصادر حدیثا فی بیروت عن بیت العلم للنابهین فی 180 صفحة من القطع المتوسط، یبحث بأسلوب علمی فقهی لم یسبقه الیه احد من الفقهاء، مسائل الحیض والنفاس والاستحاضة، معتمدا على رسوم وبیانات تضع المسائل الفقهیة الخاصة بالدماء الثلاثة، فی قالب حسابی واضح یسهل للمرأة بیان ومعرفة ما یعتریها أثناء الحالات الثلاث، والموقف الشرعی والعملی والعبادی من کل حالة.

وفی تقدیری إن الکتاب، الذی قدّم له القاضی الباکستانی، آیة الله الشیخ حسن رضا الغدیری، یشکل فتحا فقهیا، وإضافة متمیزة الى عالم المصنفات الفقهیة الخاصة بشؤون المرأة، ویشکل مادة دراسیة فی مجال فقه الأسرة، تلقى على طلبة العلوم الدینیة فی الحوزات العلمیة وتدرس فی کلیات الشریعة، للأسلوب العصری الذی اعتمده المصنف فی عرض المسائل الفقهیة.

وحتى یأخذ الکتاب ما یلزمه من بعد علمی طبی، بلحاظ صلة موضوع البحث بالجانب الصحی والطبی للمرأة کبنت وکأم مرضعة، فانه استهل بمقدمة طبیة للناشطة الاجتماعیة العراقیة، الدکتورة بیان الأعرجی، شرحت وبأسلوب علمی وفسیولوجی، کیفیة وقوع الحالات الثلاثة للدماء التی تظهر عند المرأة منذ طمثها (العادة الشهریة) حتى یأسها (انقطاع الدورة)، ودم النفاس الذی یظهر مع کل ولادة، والآثار الطبیة والنفسیة المترتبة على کل حالة، فالحیض أو الطمث یحصل مع: "انخفاض وارتفاع مستوى المواد الکیمیاویة فی الدم عند الأنثى والتی تعرف بـ (الهرمونات) خلال الشهر هی التی تعمل على حدوث الدورة الشهریة" وهذه الهورمونات تفرزها غدة (الثایرون)، فإذا وجدت البویضة الحیمن المخلّق للرجل، تلقّحت فصار الجنین، وانقطع دم الحیض طیلة فترة الحمل، فی الأعم الغالب، ویعود الدم مع الولادة فیسمى دم النفاس، وإذا لم یحصل الحمل، کأن تکون البنت باکرا، أو ان الزوجین امتنعا عن الإنجاب، أو لم یکن الحیمن مخلّقا قابلا على تلقیح البویضة، سقطت البویضة على شکل دم وهو ما یسمى بالعادة الشهریة، وقد تزداد أیام الدورة الشهریة على غیر العادة، فیحصل الاستحاضة، وقد تحصل الاستحاضة لأسباب کثیرة، ولکنها فی الغالب تشکل حالة مرضیة، بحاجة الى مراجعة الطبیب، على خلاف الحیض والنفاس اللتان تشکلان وضعا صحیا طبیعیا للمرأة.

وأشادت الناشطة والطبیبة الدکتور بیان الأعرجی، فی نهایة المقدمة الطبیة المستفیضة: "بما کتبه سماحة الشیخ الکرباسی حول هذا الموضوع الشائک الذی یبین فیه مختلف المسائل الفقهیة وبأسلوب حدیث لتسهیل الأمر على المؤمنات اللاتی یردن معرفة ما فرضه الله علیهن".

یستهل المصنف الکتاب وتحت عنوان (الحیض ظاهرة صحیة) بالحدیث عن مفهوم العادة الشهریة، وفقا لقوله تعالى: (ویسئلونک عن المحیض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فی المحیض) البقرة: 222، مشیرا الى الجوانب الصحیة الناشئة عن الدورة، باعتبار أن الدورة عملیة فسیولوجیة طبیعیة دالة على سلامة الجسم وأجهزته المودعة فیه، وکون الحیض على علاقة مباشرة بالإخصاب والإنجاب، فلا حمل لمن لیس لها حیض إن کانت صغیرة أو یائسة، والدورة الشهریة رغم الآلام التی تصاحب المرأة، لکنها فی الوقت نفسه عادة لا بد منها لاستمرار التناسل، ثم إن: "دم الحیض هو حالة صحیة ضروریة للأنثى یهیئ الرحم للإخصاب والحمل، ویتحول الى مادة مغذیة للجنین أیام الحمل، وذلک عبر الدم الذی یصل الیه من خلال الحبل السری، ویهیئ الغذاء الأنسب الذی یتلاءم مع حالة الجنین فی مراحله المختلفة".

وتحت عنوان (کیف یحدث الحیض؟)، یتطرق المصنف وبناءا على ما رشح من العلم الحدیث فی مجال الطب، الى المراحل التی تمر بها الدورة الشهریة، وهی مرحلة النمو ومرحلة الإفراز، وأخیرا مرحلة الطمث، مع بیان خصوصیات دم الحیض فی عنوان مستقل.

وتحت عنوان (الرحم أثناء الحیض)، یتحدث المصنف وبإسهاب، وبناءا على أرقام طبیة حدیثة، الى التحولات التی تطرأ على رحم المرأة باطنا وظاهرا، والتی تصاحب الدورة الشهریة وقبلها وبعدها، وینتهی القارئ وفقا للمعلومات التی أوردها المصنف، الى معرفة العلة التی تقف وراء الحظر الذی فرضه الإسلام على حریم الزوجیة یمنع بموجبه الرجل من الاقتراب جنسیا مع زوجته أثناء الدورة الشهریة، إذ یکون الضرر مزدوجا على المرأة وبعلها، کما نفهم علة إسقاط التکالیف الشرعیة وبطلان تحقق طلاق الزوجة أثناء الدورة الشهریة.

وتحت عنوان (دم النفاس) یتحدث المصنف عن الدم الثانی الذی تراه المرأة فی حیاتها، وهو دم النفاس الذی یبدأ بالخروج مع بدایة الولادة، وخروجه یشکل علامة صحة للأم ورضیعها، ویندر عدم الخروج، والرضاعة الطبیعة التی تصاحب الساعات الأولى لخروج الجنین تشکل مرحلة هامة فی حیاة الجنین، کما إنها تمنع فی معظم الأحیان من تواصل الدورة الشهریة، مما یجعل الحمل أمرا مستبعدا، ما یعتبر فترة استراحة للمرأة، کما إن الرضاعة بحد ذاتها تشکل عامل صحة لرحم المرأة، ذلک: "إن الرحم یعود الى وضعه وحجمه الطبیعی بسرعة أثناء الرضاع، وذلک لان امتصاص الثدی یؤدی الى إفراز هرمون من الغدة النخامیة یدعى الاوکسیتوسین الذی بدوره یؤدى الى انقباض الرحم وعودته الى حالته الطبیعیة".

وبعد هذه العناوین، التی تعتبر مقدمة الى صلب الموضوع وهو الحیض والنفاس والاستحاضة، یفصل المصنف القول فی الدورة الشهریة، شارحا صفات دم الحیض وشروطه، مع رسوم بیانیة توضیحیة، وبیان أصناف النساء بلحاظ نوع الدورة الشهریة، وطرق إثبات الدورة الشهریة، وما یسقط عن المرأة الحائض من تکالیف شرعیة مثل الصلاة، وما یحرم علیها الإتیان به مثل الصوم حتى ولو کان من باب الاستحباب، وبیان ما یجب على المرأة الإتیان به بعد انقطاع الدورة الشهریة.

ویستفیض المصنف، فی بیان کل نوع من أنواع العادة الشهریة، من مبتدئة التی ترى الدم لأول مرة، والمرأة ذات العادة الوقتیة والعددیة التی تنتظم لدیها الدورة الشهریة بالتاریخ وعدد الأیام، والمرأة ذات العادة الوقتیة فقط، التی تنتظم لدیها الدورة بتاریخ محدد دون عدد الأیام، والمرأة ذات العادة العددیة فقط والتی تنتظم لدیها الدورة بعدد الأیام دون التاریخ، والمرأة الناسیة للعادة التی لم تعد تذکر تاریخ وعدد أیام الدورة، والمرأة المضطربة التی فقدت الانتظام فی تاریخ الدورة الشهریة وعدد أیامها. ویدعم هذه الأصناف برسوم بیانیة وتوضیحیة تجعل المرأة على بینة من أمرها، وتخرج المسائل الشرعیة من جمودها ورتابتها، وتضع طالب العلم على الطریق السلس لمعرفة المسائل الفقهیة الخاصة بالمرأة.

وعند الانتهاء من بیان المسائل الفقهیة والتکالیف الشرعیة قبل الدورة الشهریة وبعدها وخلالها، وما یکره على الحائض الإتیان به وما یستحب، یفصّل المصنف القول فی بیان النفاس وصفاته وشروطه، وما یسقط على النفساء من تکالیف شرعیة التی هی تماما کتروک المرأة الحائض، وبیان ما بعد انقطاع الدم واحتمالات النفس والمسائل الفقهیة الخاصة بالنفساء، مسددا کل ذلک برسوم بیانیة توضیحیة.

وعند الانتهاء من الحدیث عن الدورة الشهریة، یتطرق المصنف الى (الاستحاضة) وهو الدم الثالث الذی تراه المرأة، وغالبا ما یکون عن حالة مرضیة، ویفصّل القول فی صفات الاستحاضة وشروطها وطریقة إثباتها وأقسامها من قلیلة ومتوسطة وکثیرة، مع بیان أحکام کل حالة، فضلا عن شرح مختصر لغیر هذه الدماء الثلاثة، وهی دم القروح والجروح ودم البکارة.

وحتى یکون البحث متکاملا مستوفیا لأغراضه، فان المصنف أورد 156 حدیثا من أحادیث النبی محمد (ص) وأهل بیته الکرام (ع) تتعاطى مع الموضوع برمته، مع توضیح لعدد منها، وهذه الأحادیث تشکل مادة دسمة لطالب العلم، لإرجاع کل مسألة فقهیة الى ما یوافقها من الروایات.