دعم الموسوعة:
Menu


حتى تبقى مقولة "الشرطة فی خدمة الشعب" ساریة المفعول!


ما أجمل الحال أن یمشی المرء فی شوارع المدینة وأزقتها دون أن یلتفت یمنة ویسرة خوفاً من المخبر السری أو رجل الأمن ولا یبتعد جانبا حینما یرى شرطیا أو عسکریا، بل وما أروع الحال عندما یسری الأمن إلى صدر المرء وهو یرى شرطیا ویستأنس به.

 
ربما یکون الحال الثانی من الخیال لمن یسکن فی بلد یسوده نظام شمولی ویُقاد عبر شبکات التجسس والمراقبة الیومیة وکم الأفواه، ولکنها حقیقة یدرکها من جرّب الحالین، فالمسکون بالحال الأول یستبعد وجود أمم تتعایش معها حتى الثعالب وتتحرک الطیور بین أقدام الناس دون أن تطیر هرباً أو تبتعد عن المارّة، تلتقط رزقها من تحت الأقدام ومن بین عجلات السیارات، والمسکون بالحال الثانی یستبعد وجود أمم تغلق علیها أبوابها لأیام وأسابیع وأشهر بل ولسنوات حتى لا یعرف رجل الأمن أنها تسکن فی هذا الدار أو ذاک، ویمشی فیها المرء على حذر وعامل الخوف مسیطر على کل حواسِّه ومشاعره لا هو بآمن فی الشارع ولا المدرسة ولا الجامعة ولا دائرة العمل ولا المعمل، یتخطفه الموت من کل جانب، تحسبهم أحیاءاً وهم أموات.legislation security frontcover
 
 وزادت الحکومات الشمولیة على ذلک أن زرعت صورة الحاکم فی کل زاویة للتذکیر به وبأجهزته الأمنیة، وبعضها أقامت فی کل مدینة وقضاء قصراً له تُشعر الناس بوجوده بین ظهرانیهم وتصرف أذهانهم عن مرکز العاصمة ولیظل کاتماً على أنفاسهم، ومن المفارقات المقرفة أن مرض الصورة وطغیان المقرات والمراکز سرى إلى الأمم التی خرجت للتو من قبضة سلطان جائر، فصارت صور القیادات المتکاثرة بلا حدود(!) هی البدیل عن صورة القائد الضرورة، وتنافس الأتباع وتصارعوا على احتلال کل واجهة وزاویة وعمود لرفع صور البدلاء الجدد، وصارت المراکز المؤدلجة الحقیقیة والوهمیة المزروعة فی کل قریة وناحیة وقضاء ومدینة تحصی على الناس سلوکهم هی البدیل عن قصور السلطان الأوحد، وصارت الفتاوى التفسیقیة والتکفیریة عِوَضاً عن القرارات الثوریة الإستئصالیة، وهذا بحد ذاته استبداد آخر وقهر أسوأ من سابقه انقادت إلیه قطاعات  من الأمة جهلاً أو عمداً!
 
  
ثلاثیة الأمة الآمنة
 
هل هناک ملازمة بین کلمة (أمن) و(نام) و(نما)؟
 
 فالکلمات الثلاث متحدة الحروف مختلفة الصروف، تجمع بینها عوامل الدعة الموجبة للإنشراح، فمن أمن نام مطمئنا على ماله وحاله، ومن أمن نما زرعه وماله، فالنوم المطمئن والنماء مدعاة لتحقق الأمانی على مستوى الفرد والمجتمع والبلد وهی من علامات رقی الأمة وتطورها، فالکلمات هی فی واقعها حاکیة عن زوایا مثلث القوة فی البلد الآمن، وإذا تم رعایة الأمن على مستوى السلطة والأفراد بما فیه رضا الله وصلاح الناس ضمنت الأمة رقیها وتسنَّمت مقود الأسوة الحسنة، وتمثّلت مصداق الأمة الوسط (کُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنکَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران: 110، التی تشع على الآخرین بالخیر.
 
 الأمن وما یتعلق به من قریب أو بعید على المستویات کافة نقرأه فی کتیب "شریعة الأمن" الصادر حدیثا (1433هـ - 2012م) عن بیت العلم للنابهین ببیروت فی 64 صفحة من القطع الصغیر للفقیه آیة الله الشیخ محمد صادق الکرباسی، قدًّم له وعلَّق علیه الفقیه آیة الله الشیخ حسن رضا الغدیری.
 
فالأمن یتضمن جلب الصلاح وما یتبعه من سرور وأفراح، ودفع الفساد وما یتبعه من شرور وأتراح، وهو مما تتقبله النفس البشریة لأن فیه: (الطمأنینة والإستقرار بحیث یرتفع معه القلق) کما یعبر عنه الفقیه الکرباسی، وهذا: (أمر یستأنس به الطبع السلیم لفظاَ ومعنىً، مفهوماً ومصداقاً) کما یعبر عنه الفقیه الغدیری، ولهذا فإن فرض الأمن کما یرى صاحب الشریعة: (فریضة إسلامیة کبرى، ویقابلها الفوضى التی تُعد من الفساد، وهی من المعاصی الکبیرة ومن کبائر الذنوب التی عقابها شدید .. بل سبحانه وتعالى جعل الإفساد فی الأرض بمعادلة قتل الناس جمیعا حیث قال تعالى: من قتل نفسها بغیر نفس أو فسادٍ فی الأرض فکأنَّما قتل الناس جمیعا- المائدة: 32-)، وهذه مسألة عقلائیة تسالمت علیها البشریة، بل: (إن فرض الأمن واجب على الحکومات کلها) کما یؤید ذلک المقدِّم، فالأمة لابد لها من حاکم یمسک بزمام الأمور ویمنع انهیارها، وذلک: (لأنَّ فرض الأمن من الأمور الضروریة والهامة للحیاة البشریة وعلیه یستقر أساسها، فورود النقص فیه أو النقض به یوجب اضطراب القوات الفاعلة، ولولاه یتهدّم کل شیء) کما یضیف الفقیه الغدیری.
 
 
 العنف والعنف المضاد
 
ولکن هل یستدعی العمل على استتباب الأمن وفرضه لصلاح العباد وسلامة البلاد استخدام وسائل العنف أو العنف المضاد؟
 
هذا ما یحاول الکتیب تسلیط الضوء علیه وبیان حکم الشریعة فیه، لیس أقل من وجهة نظر الفقیه الکرباسی، فالقاعدة العامة أن الحکومة هی عبارة عن جهة خولّها الشرع أو الشارع أو الدستور حسب مقتضیات الزمان والمکان لإدارة البلد وتصریف شؤون الأمة بما فیه خیرها فی حاضرها ومستقبلها، وهذا التخویل هو عبارة عن وکالة، وتقتضی الوکالة الأمانة فی أدائها، ومن الأمانة أن یتوسل الوکیل بالأسالیب السلیمة والسلمیة لفرض الأمن وحفظ السلام، إذ: (لا یجوز للسلطات المختصة استخدام التعذیب کوسیلة لحفظ الأمن) وإذا: (قُبض على من هو مخل بالأمن لا یجوز إهانته وضربه، بل الواجب علیهم احالته على القضاء)، کما أن: (مداهمة البیوت لا تجوز إلا فی الحالات القصوى وبإذن حاکم الشرع) أو مذکرة إلقاء قبض بتعبیر الیوم، وعلى عکس الجاری فی معظم الحکومات الشمولیة التی تحاصر المتهم المقبوض علیه أو الهارب من خلال الحجز على أمواله المنقولة أو غیر المنقولة أو اعتقال المقربین منه بجریرته، فإن هذه الإجراءات التعسفیة وأمثالها لا تجد لها موطئ قدم فی القضاء الإسلامی النزیه کما تؤکد علیه "شریعة الأمن" فی مجمل مسائل من مجموع 94 مسألة فقهیة احتواها الکتیب مع 66 تعلیقاً.
 
 وفی هذا السیاق: (لا یجوز کشف حساب المتهم أو المجرم إلا بأمر قضائی وبالمقدار الضروری...)، کما أن: (التنصُّت على الهواتف وسائر وسائل الإتصالات لا یجوز، إلا فی الحالات القصوى مقتصرة على مدة الحاجة ومواردها)، ومنها: (تعرض البلاد إلى هجمات إنتحاریة ترید الإخلال بالسلم الأهلی وإشاعة الفوضى أو قتل الأبریاء)، کما لا یجوز التجسس على الأشخاص أو المؤسسات إلا فی حالات خاصة، ویخرج من دائرة حرمة التجسس العدو المتربص بالبلد سوءاً، نعم: (یجوز الإعلان عن المذنب عبر وسائل الإعلام فی حالات نادرة وبالأخص فیما إذا أرید ردع الآخرین، ولابد من أخذ رأی حاکم الشرع ومراعاة الإحتیاط، وعدم تجاوز الحدود الشرعیة والمدنیة).
 
 
 حدود المخبر السری
 
وبالطبع لابد للبلد من عیون تحمی حدوده الخارجیة ومصالحه الداخلیة، فلا یسلم بلد من أعداء منظورین وغیر منظورین، ولا یسلم بلد من ضعاف النفوس یعملون لغیر صالح البلد بخاصة إذا کانت السلطة منتخبة من الشعب یمثل وجودها خطراً على حکومات تنعدم فیها الإنتخابات الدوریة ومبدأ تداول السلطة سلمیاً، ولذلک وعلى مستوى الخارج: (یجوز التجسس على العدو والدول المعادیة إذا کانت هناک حالة حرب أو فی حال الخلاف الذی قد یؤدی إلى الصراع)، ولا یشترط الغدیری ما اشترطه الکرباسی، فعنده: (التجسس على الدول المعادیة یجوز بل وقد یجب لحفظ الأمن ودفع شرورهم مطلقاً، ومن دون نظر إلى حالة خاصة کالحرب والخلاف المتوقع).
 
 ولا یقتصر عمل "العین" باصطلاح القدیم أو "رجل الأمن الإستطلاعی" باصطلاح الکرباسی، أو "المخبر السری" باصطلاح الیوم، خارج حدود البلد، فللداخل عیونه، فمنتهى غایة الأمن حفظ مصالح الأمة وسلامة البلد وهذا الأمر یقتضی جواز عمل المخبر السری فیما إذا عمل على الجانبین الحکومی والشعبی، من هنا یرى الکرباسی أنه: (إذا کان عمل الأمن ضروریا فلابد أن یکون فی کشف الخلل فی أداء الحکومة إلى جانب کشف حاجات الأمة، وعندها یکون مثل هذا الإستطلاع جائزاً بل محبوباً عند الله سبحانه وتعالى)، بید أن باب الإستطلاع غیر مفتوح على مصراعیه وإنما تنحصر فی جهة إصلاح أمر الأمة حکومة وشعباً، وعلیه ومن باب المثال: (لا یجوز لرجل الأمن الاستطلاعی أن یتداول بالمعلومات لغیر الجهة المختصة حتى إذا لم یکن لها أثر سلبی على الأشخاص الذین جرى الإستطلاع عنه)، ومثل هذا الکلام یعیدنا إلى أیام النضال السری حیث کان یتم التعامل مع المعلومة الخاصة داخل الخلایا التنظیمیة على أساس أن: (السر الحرکی یُقدم للآخر حسب الحاجة العملیة ولیس حسب الصداقة)، ولأن صیانة الأمة وشؤونها الداخلیة والخارجیة وبخاصة فی الحکومة المنتخبة هو أمر على غایة من الأهمیة، فإنه: (لا إشکال فی تکریم رجال الأمن فی أی سلک کانوا إذا قاموا بواجباتهم من خلال تطبیق الشرع المبین)، بل ویزید الغدیری: (یجب معاونتهم ومساعدتهم فی عملیات فرض الأمن فی البلد، وهو من باب التعاون على البرّ، وأیّ برٍّ أقوى من فرض الأمن للإنسان).
 
فی الواقع یمثل الکتیب واحد من ألف عنوان فی موضوعات الحیاة المختلفة یعکف الفقیه الکرباسی على بیان أحکامها، قد لا نجد تفریعاتها فی کتب الفقه المتداولة فی الحواضر العلمیة فی العراق والمدینة وإیران والشام ومصر والمغربی العربی وغیرها، وهی أحوج ما تکون إلیها البشریة، وشریعة الأمن هی واحدة من التفریعات المستحدثة المعنیة بمسائل أجهزة الأمن وجد الکرباسی ضرورة: (بیان الوجهة الشرعیة بالنسبة إلى العاملین فی الأجهزة الأمنیة وإلى الدوائر الأمنیة بکل أشکالها وألوانها، بل وإلى الشعوب التی لا تنفک هذه الأجهزة من التصادم معها کل یوم)، ولذلک فلا مناص من أن تکون هذه الأحکام ومثیلاتها تحت بصر الأجهزة الحکومیة والأمنیة والتثقف بها من أجل بناء علاقة سلیمة بین الحاکم والمحکوم تُشعر المواطن بالأمان والطمأنینة عند رؤیة رجل الأمن أو الشرطة حتى تتمثل بحقٍّ وحقیقة مقولة (الشرطة فی خدمة الشعب).