دعم الموسوعة:
Menu

 

أندلسیون یعثرون على الحقیقة الضائعة فی الأرجنتین

 

دلت التجارب البشریة أن الفکرة أو النظریة أو المعتقد لا یمکن فرضها على مجتمع أو أمة تحت أسنة الرماح وبمخالب العنف، لأن القبول بأی معتقد وبالإکراه وفی مقطع زمنی سیؤول بعد فترة ولو طالت إلى ردة ربما أشد من صدمة القبول الأولی المرغم، فالإنسان لا یمکن قسره على الإیمان بشیء إذا لم یتقبله طواعیة حتى وإن کانت الغلبة العددیة لأصحاب الفکرة، ولذلک امتنع الرسول محمد (ص) على إدخال الناس فی دین الله تحت حد السیف رغم الضغوطات التی مارسها بعض الصحابة بعد أن ازدادوا عدةً وعدداً لإعمال القوة وجر الناس إلى الدین الجدید، فما لم یقدره الخالق لنفسه رغم خالقیته للبشر فمن باب أولى لا یقدِّره لنبی أو مرسل أو إمام، فشعار الجمیع هو الإصلاح، والإصلاح لا یأتی بالقهر وإن أتى فهو إیمان مهزوز قابل للتبخر عند رفع غطاء القهر.islam-in-argentina

ودلت التجربة أیضا أن المجتمع الذی یتقبل فکرة وإن أتته من خارج محیطه الجغرافی والبیئی، یکون شدید الحرص على التمسک بها والدفاع عنها والترویج لها، لان القناعة بالفکرة والإیمان بها من أقوى الدفاعات الأمامیة فی حرب الأفکار والمعتقدات التی یشنها الآخر العقیدی، فربما أصاب الترهل المجتمع الذی انبثقت فیه العقیدة ولکن تبقى مجتمعات الأطراف أو المتوزعة هنا وهناک والمتوحدة عقیدیا مع المرکز هی الحارسة له لا بالتبع والعمالة کما هو فی المفهوم السیاسی السائد وإنما لإیمان متجذر فی النفوس تقبلته المجتمعات البعیدة عن وعی وإدراک، ومن یؤمن بعقیدة یدافع عنها وإن کانت الممارسات فی جانب منها لا تتوافق مع أصل المعتقد.

وحینما یتم الحدیث عن الوجود الإسلامی فی الأمیرکیتین الشمالیة واللاتینیة تتوضح بجلاء صورة الإسلام الذی غزا القلوب تحت سنابک خیل الإیمان الطوعی، وکلما تعرفت الشعوب الأمیرکیة على حقیقة الإسلام انشرح صدرها له، لأن الإنسان بطبعه میال إلى القوة التی تنتشله من واقعه المریر ممزوجا بإحساس دفین إلى التکامل والرقی ونیل أعلى مثل وقیم مکارم الأخلاق، وهذه المثل المتصلة بسبب بین الأرض والسماء یجدها المرء فی تعالیم الإسلام.

ولا شک أن لحرکة هجرة المسلمین نحو الأمیرکیتین فی القرون الماضیة الأثر الکبیر فی نشوء مجموعة مسلمة زحفت عقائدیاً وسلمیاً على السکان الأصلیین، وهذه الحرکة نجد بعض تفاصیلها فی الکتاب الذی صدر حدیثا عن "بیت العلم للنابهین" ببیروت فی 64 صفحة من القطع المتوسط للدکتور الشیخ محمد صادق الکرباسی بعنوان "الإسلام فی الأرجنتین".

• هجرات قسریة وطوعیة

یعود وجود المسلمین فی الأرجنتین (بلاد الفضة) إلى العهود الأولى لاکتشاف القارة الأمیرکیة، ویرى البعض أن الأندلسیین المسلمین الذین تنصَّروا قهرا بعد سقوط الأندلس عام 1493 م والذین یسمیهم الإسبان بالمورسکین هم أول المهاجرین المسلمین إلى الأرجنتین، وتعرضوا فیها لما تعرض له إخوانهم فی الأندلس ولاسیما وأن الأرجنتین کانت واقعة تحت سلطة الإسبان، وفیما بعد جرت هجرات لمسلمین وعلى مراحل وبخاصة من بلاد الشام کان أصحابها فی معظمها یبحث عن الأمن والإستقرار، وشهد النصف الثانی من القرن التاسع عشر المیلادی هجرة کبیرة للعرب من سوریا وأعقبتها هجرة ثانیة فی النصف الأول من القرن العشرین المیلادی وازدادت أثناء الحرب العالمیة الأولى وبعدها على أن معظم المهاجرین هم من العرب المسیحیین.

ولا شک أن بعض المهاجرین ذهبوا بحثا عن الأمن الإقتصادی، وبشکل عام فإنه ووفق احصاءات سنة 1960 م کما أشار الدکتور الکرباسی، فإن: (10% من الأرجنتینیین العرب هم مسلمون، وتذکر المصادر نفسها أن 60% من الشباب من الجیل الثانی لم یعد یمکنهم التکلم باللغة العربیة، وإن 10% من الجیل الثالث یمکنهم التحدث باللغة العربیة، واختفت الصحف العربیة من الساحة الأرجنتینیة بعدما کانت رائجة وانحصرت الهویة الإسلامیة بالبیوت).

ولیس هناک إحصائیة ثابتة حول عدد المسلمین فی الأرجنتین، فبعض المصادر تقدرها بنحو 900 ألف مسلم أی 2,5% من مجموع السکان البالغ عددهم أکثر من 37 ملیون، یعیش الکثیر منهم فی العاصمة، لکن بعض المراجع الإسلامیة المهتمة تقدر عدد العرب من المسیحیین والمسلمین بنحو ملیون معظمهم من سوریا، وبعضهم یصل بالعدد إلى 3,5 ملیون خُمسهم یعیش فی العاصمة بوینس آیرس ومنهم 200 ألف من المسلمین، ولکن من الثابت أن حرکة إقامة بناء المساجد والجمعیات بدأت تزداد ولکن ببطئ.

ومن الملاحظ فی حرکة المهاجرین إلى الأرجنتین أن هجرة العرب مسلمین ومسیحیین من بلاد الشام انقطعت بشکل عام، وفی المقابل کما یقول المؤلف: (تدفقت أعداد کبیرة من المسلمین الباکستانیین والبنغال والهنود إلى هذه البلاد فقلبت الموازین فأصبحت نسبة المسلمین غیر العرب بالنسبة إلى العرب 55%)، وکان للوجود الإسلامی الکبیر دافعه فی حمل السلطات الأرجنتینیة المستندة فی قواعد الحکم إلى الدیانة الکاثولیکیة على إصدار قانون یتیح للمسلمین الحصول على عطل رسمیة لعیدی الفطر والأضحى والسنة الهجریة، کما سمحت الحکومة بتقیید الأسماء الإسلامیة للموالید الجدد فی سجلات الدوائر الرسمیة، وهنا یصرح الداعیة محمد یوسف هاجر رئیس المنظمة الإسلامیة لأمیرکا اللاتینیة والبحر الکاریبی التی تضم 33 دولة انه تحمل المشاق کی یختار لولیده اسم "حسین"، وقد تمکن من ذلک بعد بذل الجهود المضنیة. وقد سمحت السلطات ابتداءاً لخمسة عشر اسماً إسلامیا ثم ارتفع العدد إلى ثلاثین إسماً.

ومن الواضح أن الرئیس الأرجنتینی الأسبق السوری الأصل والمسلم الأصل والکاثولیکی فیما بعد الرئیس کارلوس منعم المولود عام 1930 م ساهم فی توطید العلاقات الأرجنتینیة والعربیة وفتح المجال أمام المهاجرین وبخاصة العرب وفی عهده (1989- 1999 م) تم وضع حجر الأساس لأکبر مسجد فی العاصمة وافتتح عام 1999 م. ویُذکر أن الدستور الأرجنتینی نص عام 1853 م على أن مرشح رئاسة الجمهوریة ینبغی أن یکون مسیحیا من المذهب الکاثولیکی، ولکن الفقرة تم تعدیلها عام 1994 وأُسقط شرط المذهبیة.

• لمَ التحول؟

تعد الأندلس بعد السقوط أبرز حالة شهدتها البشریة تم فیها قسر الناس على تغییر دینهم تحت مطرقة محاکم التفتیش، ولو ترکت الجیوش الأوروبیة مسلمی الأندلس وشأنهم لآختلف الأمر کلیا، لأن الناس بشکل عام تقبلت الإسلام طواعیة وبخاصة وأنه جاء مکملاً للأدیان السماویة ولم یکن ملغیاً لها أو معادیا، بل ترک أصحاب الأدیان وشأنهم تحت قاعدة قرآنیة مُحکَمة (لا إکراه فی الدین) سورة البقرة: 256.

من هنا فإن التعرف على الإسلام وقراءته من جدید یفتح الآفاق لدى الآخر تقبلا أو إیمانا، وینقل الدکتور الکرباسی عن استبیان أعدته جامعة جورج تاون (georgetown university) الأمیرکیة عام 1998 م لمجموعة شباب تتراوح أعمارهم بین سن 9 و20 سنة خلصت فیه أن 8% من مواطنی أمیرکا اللاتینیة ومن ضمنها الأرجنتین اعتنقوا دینا آخر غیر دین عائلاتهم الأصلی، ومن ضمن المتحولین فیهم نسبة عالیة اختاروا الإسلام.

ولکن لماذا نشهد التحول من المسیحیة إلى الإسلام فی القارتین الأمیرکیتین؟

یعزو الدکتور الکرباسی ذلک إلى أسباب عدة أهمها:

أولا: إن الإسلام لا یعترف بالفوارق العرقیة.

ثانیا: إن الإسلام یؤمن بالأنبیاء السابقین على الرسول (ص) وبخاصة النبی موسى (ع) والنبی عیسى (ع) ویحترمهم.

ثالثا: إن أصولهم إسلامیة اعتنقوا الإسلام بملء إرادتهم، وتخلى الأحفاد عن الإسلام بالإکراه والعنف.

رابعا: إن الإسلام یربط الإنسان بخالقه مباشرة دون الحاجة إلى اللجوء إلى وساطة الکنیسة.

خامسا: إن المسیحیة ترى بأن المسیح إله وهذا أمر یعتبرونه غیر معقول.

سادسا: إن المسیحیة تقول بالتثلیث وهو أمر لا یصدق.

سابعا: إن القوانین الإسلامیة أقرب إلى الفطرة والعقل.

ثامنا: إن الإسلام یرفض فرض العقیدة على الإنسان.

تاسعا: إن الإسلام سنَّ قانون المساواة ورفض کل الفوارق الإجتماعیة.

عاشرا: إن الإسلام یفتح باب الحوار والمناقشة دون حدود.

• شاهد من الواقع

ولکن لماذا هذا التحول من دین سماوی إلى آخر؟

هذا التساؤل یجیب علیه النائب السابق فی المجلس النیابی الأرجنتینی عن حزب الحرکة الإشتراکیة ممن کان یبحث عن الحقیقة الضائعة منذ عام 1979 م وأسلم عام 1982 م، وهو الأستاذ سانتیاغو پاز بولرج (Santiago Paz Bullrich) المولود عام 1962 م فی منطقة نورت (Barrie Norte) شمال العاصمة بوینس آیریس، الذی أصبح فیما بعد الشیخ عبد الکریم پاز، یقول فی بیان سبب تحوله إلى الدیانة الإسلامیة: (التحقت بکلیة الفلسفة بجامعة الأرجنتین لهذه الغایة، وذلک لأتعلم حکم الکون (الحکم الإلهی)، وفی السنة الثانیة درست الفلسفة الیونانیة وتعرفت على معنى التوحید، وبعد ذلک التقیت بمدرس سوری لدیه مرکز إسلامی صوفی ونظرة عن الشیعة، هو فی الأصل کان علویاً، وبعد أن تعرفت على الفرق بین التشیع والتصوف، بان لی أن التشیع هو طریق الإسلام الصحیح).

ویضیف الشیخ پاز المولود فی أسرة کاثولیکیة أمًّا وأباً: (فی السنة الثانیة من دراستی الجامعیة توجهت للغرض ذاته إلى مسجد التوحید فی العاصمة وهناک التقیت بالمسلمین الشیعة والذین کانوا من أصول أرجنتینیة ومن مهاجرین لبنانیین وسوریین من العلویة والإثنی عشریة بالإضافة إلى إیرانیین، وهنا توضحت لی الصورة، وحتى تکتمل سافرت إلى مدینة قم بعدما حصلت على شهادة الماجستیر، فاکتملت الصورة عندی بشکل واضح ومقنع، فالتحقت بالحوزة العلمیة لکسب المعارف ولازلت).

ولقد عوّد البحاثة الدکتور الکرباسی قرّاءه على إشراک أعلام آخرین فیما یکتب وبخاصة فی سلسلة کتب "الإسلام فی .." وکما فعل فی الصادر من هذه السلسلة على التوالی: "الإسلام فی إسبانیا" من إعداد الفنان التشکیلی العراقی المقیم فی مدرید الدکتور کاظم بن شمهود طاهر، "الإسلام فی إثیوبیا" من إعداد الداعیة الإثیوبی محمد سعید بن إبراهیم آل أبی إمام، "الإسلام فی بریطانیا" من إعداد الطبیب الإخصائی العراقی المقیم فی لندن الدکتور علاء بن صاحب الحسینی، و"الإسلام فی آذربایجان" من إعداد الداعیة الآذربایجانی المقیم فی دمشق الشیخ لطیف بن عاکف لطیف أف، فإنه عرض کتیب "الإسلام فی الأرجنتین" على الشیخ عبد الکریم پاز مقدما ومعلقا ومعداً، إذ جاء فی المقدمة فی بیان أسباب التحول إلى الدین الإسلامی: (إن الإسلام هو النور الإلهی الذی یدخل قلب المرء دون استئذان إذا وجده مؤهلاً لذلک، هذا ما یشعره کل من استبصر بالإسلام حیث یجده دین الفطرة فلیس فیه ما یخالف الفطرة أو العمل، ومن هنا فإنه یتماشى مع کل زمان ویمکن تطبیقه فی کل مکان مهما اختلفت المفاهیم والعادات وبالتالی القومیات، ویصل لکل الأعمار والفئات).

ویقارن الشیخ پاز بین إسلام أهل المدینة وإسلام أهل الأرجنتین، فیرى أنه: (ما کان دخول الإسلام إلى الأرجنتین إلا کدخوله مکة والمدینة، فما أن عرف الآخرون فلسفة الحیاة فی الإسلام وبالأخص عن طریق الرسول (ص) وأهل بیته الأطهار (ع) إلا وانجذبوا لتلک الأفکار ذات الحیویة والفاعلیة على جمیع المستویات)، معبرا فی الوقت نفسه عن أسفه لأن: (الإشکال یبقى مع الذی یجهل الإسلام وتعالیمه، وما على المسلم إلا العمل على إیصال الکلمة إلى غیر المسلمین بل إلى المسلم الجاهل غیر العامل بتعالیم دینه والذی أصبح کلاًّ على الإسلام والمسلمین).

وهذه حقیقة لمسها المستبصر الأستاذ سانتیاغو پاز بولرج (Santiago Paz Bullrich) (الشیخ عبد الکریم پاز) المتزوج من الناشطة اللبنانیة فی المجالات الثقافیة والإعلامیة السیدة معصومة الأسعد، فالمسلم الذی یعیش فی بلدان غیر إسلامیة ینبغی أن یظهر الإسلام بسلوکه قبل لسانه، کما فعل المهاجرون الأوائل الحبشة ومن بعد فی اندونیسیا ومالیزیا وغیرها، لأن الناس بشکل عام عقولهم فی عیونهم، ولذلک فلیس من الغریب أن یقر الأرجنتینی الأستاذ غارسیا المولود عام 1971 م والذی أسلم عام 1989 م واتخذ لنفسه اسم محمد عیسى، أن 60 فی المائة من الأرجنتینیین الذین أسلموا تعرفوا على الإسلام من خلال مواقع وصفحات الشبکة البینیة الدولیة (الإنترنیت)، أی من خلال قراءة الإسلام قراءة فکریة وعقائدیة.