دعم الموسوعة:
Menu

هندسة العروض من جدید‏

 

 

قراءة كتاب

جدید العَروض فی هندسة العَروض من جدید:

 

لکل مادة علمیة مصطلحاتها یعرفها من یتعامل معها ویعایشها وتعصى على الفهم لدى عامة الناس، وربما عرفها البعض عرضیا من باب الثقافة العامة دون أن یتعرف على کامل مضامینها، والأدب لا یختلف عن غیره من مواد المعرفة فیه من المصطلحات والمفردات یستدل علیها العارف بها والمشتغل بها یقف على مضامینها، بعضها أو کلها.

 

وتتوفر فی الأدب المنظوم مجموعة من المصطلحات دالةٌ علیه من قبیل القافیة والوزن والروی والعروض، ولکل مصطلح مفهوم ومصادیقه، وهی محل ابتلاء الشاعر ونظمه والحاکمة علیه لا یجد عنها فکاکاً، ومن المفارقات الظریفة أن عدداً غیر قلیل من شعراء القریض تتوفر قصائدهم على کامل الموازین لکنهم یعجزون عن معرفة الأوزان الشعریة والبحور، لأنَّ البدیهة دیدنهم فی النظم والإنشاء وقوافیهم تنساب على بعضها دون قیاسات مسبقة أو حدود ثابتة فهی کامنة فی ضمیرهم الشعری، وهذا ما کان علیه الشعراء فی عصر ما قبل الإسلام وبعده حتى جاء الخلیل بن أحمد الفراهیدی الأزدی (100- 173هـ) ووضع الأوزان الشعریة وبحورها بالنظر إلى إیقاع کل بیت، واستمر الأمر بعده، ولهذا فإن معرفة المصطلحات والثبت من جزئیاتها لها أصحابها وعلماؤها، فربما کانوا من طبقة الشعراء أو عموم الأدباء، فالشعر العربی قائم على عمودی الوزن والقافیة، فإذا کانت الثانیة معروفة من خلال الحرف الهجائی لخاتمة البیت فإنَّ مربط الفرس فی الأولى کون الوزن الشعری وهو ما یعبر عنه بالعَروض أو میزان الشعر أو الإیقاع الشعری له خبراؤه وهم فی نادی الشعراء عملة صعبة.

 

ولأن العروض أو الوزن له قیاساته التی لا ینبغی الخروج عن سیاجه وبه یقوم البناء الشعری، فیصح حینئذ وصفه بهندسة العروض، لأن الهندسة دالة على حسن الأسس التی یقوم علیها البناء، والبیت الشعری فی حقیقته أشبه بالبیت المسکون، فما کانت هندسته مضبوطة والمواد المستعملة فیه وفق قیاسات موزونة کان بناؤه حسنا رصیناً یعجب الساکنین والناظرین ومهوى القلوب على تنوع آمالها وأحلامها وتفجعاتها.

 

وإذا کان إبن الجنوب العراقی فی البصرة الفیحاء الخلیل الفراهیدی قد حصر الأوزان الشعریة الخمسة عشر: الوافر، الکامل، الهزج، الرجز، الرمل، السریع، المنسرح، الخفیف، المضارع، المقتضب، المجتث، الطویل، المدید، البسیط، والمتقارب،  فی ثمان تفعیلات وهی: (فعولن، فاعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفاعیلن، مستفعلن، فاعلاتُنْ، مفعولات)، فإن إبن وسطها فی کربلاء المقدسة والمولود فیها سنة 1947م العروضی الدکتور محمد صادق الکرباسی تمکن من التوسع فی التفاعیل والبحور والأوزان لیصل بالتفعیلات إلى 43 دائرة بحریة تولدت عنها 210 بحراً، وکما یقول الشاعر الجزائری الدکتور عبد العزیز شبِّین وهو یقدم ویعلق على کتاب "هندسة العروض من جدید" الصادر عام 1432هـ (2011م) عن بیت العلم للنابهین ببیروت (لبنان) ومکتبة علوم القرآن بکربلاء المقدسة (العراق) فی 391 صفحة من القطع الوزیری: (أخذ کل وزن منها شکلاً ایقاعیا خاصاً، عُرف ببحر مستقل، اشتق له المؤلف اسماً مُستخلصاً من نعت البحر أو الوزن ذاته، وقبل أسماء البحور اشتق للدوائر المستحدثة أسماءها المستوحاة من نعوت فنیة وشکلیة تربط بین کوکبة من البحور بعلائق متعددة فی دائرة واحدة).

 

ویمثل کتاب "هندسة العروض قراءة جدیدة" أحد أضلاع مثلث فی قواعد الشعر العربی وفنونه صاغها یراع الکرباسی، ضلعاه الآخران هما کتابا "الأوزان الشعریة العروض والقافیة" فی 719 صفحة و"بحور العروض" فی 157 صفحة، وکلاهما من القطع الوزیری، والثلاثة صدرت فی آن واحد، مع التأکید أن الکرباسی انطلق فی اکتشافاته العروضیة الجدیدة من عروض الخلیل الفراهیدی وتفعیلاته الثمان لکن لم یقع تحت تأثیر سحرها المانع عن الجدید لإیمانه الکامل: (إن التفعیلات هذه لیست مقدسة، فبالإمکان استحداث ما یمکن شرط أن تتقبله الآذان الحرة وصفاء القلوب)، وقد ترجم هذا الفتح العَروضی فی بیت من الشعر کان شاهداً على (بحر المهزّج) وهو مما ابتکره:

 

هل أتى حدیثٌ فی القوافی مستنهضاً *** أم أتاکَ نهیٌ عن عروضی مُسترفضا

 

 وهذا ما جرى علیه قلمه فاستشهد لکل بحر جدید ببیت شعر، ولأن البحور مستحدثة فإن الشاهد کان من نظمه مع شروحات للأدیب شبّین، وفی حقیقة الأمر أن الکرباسی تعامل مع التفعیلات کما یتعامل الإنسان مع العجینة لها أن یشکلها کیفما یشاء بما یعجب الناظر دون أن ینقص من وزنها أو حجمها وهو بذلک یفتح الآفاق أمام الأدباء والشعراء وبخاصة الراغبین فی معرفة هندسة العروض بعامة وقواعد الشعر العربی بعامة، ولذلک لا یرى الأدیب الجزائری شبّین بُدّاً من الإقرار أن الکرباسی بما جاء به فی هندسة العروض من جدید لم تستوعبه ذاکرة التاریخ فی شعرنا العربی: (فحق أن یُلقَّب بالخلیل الثانی اعترافاً بعبقریته فی تحدیث هذا العلم، والخروج به من دائرة الإنغلاق، والسمو به إلى أفق الإنفتاح، شارحاً للناشئة معالمه وفصوله، باسطاً بین أیدیهم مفاتیح فهمه، وأشرعة الغوص فی بحار معانیه).

 

ویختلف عدد البحور من دائرة إلى أخرى، وتراوحت بین الإثنین والإثنی عشر، فعلى سبیل المثال فإن الدائرة الأولى المسماة (المتفق) ضمت بحرین، و(المجتلب) ثلاثة أبحر، و(المترابط) أربعة أبحر، و(المختلف) خمسة أبحر، و(الملتبس) ستة أبحر، و(المتجافی) ثمانیة أبحر، و(المتناثر) تسعة أبحر، و(المتناسق) عشرة أبحر، و(المشتبه) اثنی عشر بحراً.

 

ومن إبداع الکرباسی فی شواهده، أنه تفنن فیها کأن یکون البیت خال من حرف أو مجموعة حروف، من قبیل شاهد (بحر التابع):

 

رستْ سفنُ النجاة على آل الرسول الأمجد *** فشعَّ على الملا بسنا نور الإله الأوحد

 

حیث خلا البیت من حرف الیاء، وقد خلا شاهد (بحر السلیم) من حرف الباء کالتالی:

 

قضَّنی مضجعی شغفاً وفی ودادی لمن عزَفا *** والهوى لا یتوق إلى مَنْ یروقُ الذی عزفا

 

ونجد الفن فی البحر الواحد وتفریعاته، فعلى سبیل المثال وفی (بحر الشذب) والتام منه خلا الشاهد من حرف الثاء:

 

همساتی باتت سبباً لمعاداتی فی فکری *** وبها قد زادت خلواتُ رفاقی رغم الخطر

 

ولکن مجزوء الشذب لم تخلو کلمة من کلمات الشاهد من حرف الثاء على النحو التالی:

 

لبث اللیث الثائر حیث ثغوری *** وثغى ثرثارٌ ثولاً بثبور

 

وهکذا فی بقیة شواهد البحور الخلیلیة القدیمة والکرباسیة المستحدثة.

 

وفی الواقع أن الأبیات التی قاربت الستمائة فی الاستشهاد على البحور الجدیدة وتفریعاتها ضمَّت فکرة أو حکمة أو لطیفة إبتغى الشیخ الکرباسی عامداً نقلها من الأدب المنثور المبثوث فی مؤلفاته المختلفة إلى الأدب المنظوم، فبقدر اهتمامه بما ابتکره من بحور اهتمامه بأن تکون الشواهد الشعریة ذات رسالة، فعلى سبیل المثال تأکیده على منظومة العلاقات الست التی تحکم الإنسان کما فی (الحسین والتشریع الإسلامی: 1/31) وهی: علاقة الفرد بخالقه، وبنفسه، وبفرد آخر، وبالمجتمع، وبالبیئة، وبالدولة، وفی هذا المقام ینظم الأدیب الکرباسی فی شاهد (بحر المقبول) التام:

 

ست علاقات ُالخلائق فی الحیاة کما بدا *** بالنفس وبالرحمان والبشر الذین لهم غدا

 

فردٌ وجمعٌ ثم یعقبه النظام لدولةٍ *** والبیئة الکبرى لها أثرُ على نمط الأدا

 

فهذه العلاقات کما یراها المؤلف هی مؤشر على حاضر الفرد ومستقبله، وبالتبع على المجتمع، إن خیراً فخیراً وإن شراً فشراً.

 

وإذا قایسنا بحور الفراهیدی الخمسة عشر ببحور الکرباسی المائتین وعشرة أبحر، فان الفارق کبیرٌ جداً مما یعطی الإنطباع العام أن الثانی لم یترک فی قوس البحور من منزع وبلغ مداها، لکن الکرباسی یرى فی خاتمة کتابه أن البحور لیست متوقفة على ما ابتکره فی إطار تفعیلات الخلیل الثمان، لأن تجاوزها إلى العشرة مثلاً یفتح الأبواب على بحور أخرى، من قبیل مخمس المتقارب المتضمن لعشر (فعولن) فی الصدر والعجز وشاهده:

 

قدیمٌ جدیدٌ دلال الغوانی حبیبی *** ألا سحرهنَّ الذی یُبهرنی وربِّی

 

وهذا الإبتکار فی الدوائر العروضیة وما یتفرع عنه من بحور شعریة ضمن التفاعیل الثمان والإقرار بأن الأبواب مفتّحة على بحور أخرى ومولداتها، یفسر قوله الشاعر والعروضی الجزائری الدکتور عبد العزیز شبّین أن: (الکرباسی من الأعلام القلائل الذین اشتغلوا بهذا العلم وأدرکوا أسراره، وأتقنوا قواعده، بما امتلکه من حسٍّ مرهف، ونظر بعید، ورؤیا استبصرت بلطائف الإلهام، وتغرَّست بفنون المعارف، ذلک أن منطلق هذا الفن هو الطبعُ، والموهبة وحدها کفیلة بوضع الفواصل، ورسم الإنفراد، غیر أن الثقافة تزیدها وهجاً فی التألق، وإبحاراً فی الخیال، وبلاغة فی المعنى، کلُّ هذا استخلصته مما قرأته من کتاب هندسة العَروض من جدید).

 

ولذا لا غرو أن ینعت الأدیب الجزائری الدکتور شبِّین وهو الضلیع بالبحور الخلیلیة، الکرباسی وهو الضلیع بعلوم شتّى أنه الخلیل الثانی.

 

 

د. نضیر الخزرجی